26 سبتمبر 2025

تسجيل

وأنتم بخير

21 أغسطس 2012

1970 كنت في السابعة، ربما أكبر قليلاً، القرية المطلة على الفرات تستعد للعيد، وأحد أجدادي يخصص نعجتين للذبح، فوليمة العيد حقّ معلوم لهم، ونحن الصغار ننتظر المصلين ليخرجوا من المسجد لنلحقهم إلى بيت الجدّ، الكبار يدخلون إلى البيت، ونحن ننتظر وقوفاً، أو نتحلق في دوائر منتظرين عودة مناسف الطعام شبه الفارغة والعائدة من معركة حقيقية لم يبقِ فيها الرجال إلا الثريد. ولم يكن هناك فرح يماثل فرح أطفال القرى الفقراء الظافرين بوجبة إفطار العيد قوامها خبز منقوع بحساء وعظام عليها بقايا لحم، وقطع معدنية من فئة الفرنك أو الفرنكين النحاسية، ينثرها فوقنا بعض الرجال المقتدرين بعد أن يفكّوا ليرة سورية أو خمس ليرات، مردّدين عبارة "عيدك مبارك" أو عبارة الردّ "أبرك الأعياد علينا وعليك" عبارات نردّدها في درس تقوية خاص تعطيه لنا الأمهات كي لا يتعرض الأبناء إلى النقد بين أفراد القبيلة. 1974 طاف الفرات في غير موسم المطر، تناثر الأهل في جهات البلاد، وباتت أغنية ( مندل يا كريم الغربي ) مناسبة للحنين والبكاء. أخذتنا سيارات مختلفة إلى بلاد جديدة بعدما ذابت القرية في حوض البحيرة الجديدة، وتجمّع عربان الوادي في قرى جديدة أنشئت على عجل في الشمال البعيد، وهكذا سكنّا بيتاً جديداً مسقوفاً بـ(الكونكريت ). في قريتي الجديدة لم يكن هناك من يولم لقرية كبيرة لا تكفيها نعجتان، ولكن قبائل القرى المتجاورة كوّنت عرفاً جديداً، يطوف فيه الجميع على البيوت. بينما الصغار يستعدون بأكياس كبيرة لقطع الحلوى المختلفة. 1999 غادرت إلى الدوحة ، كنت في الثالثة والثلاثين، وكان العيد الأول خارج البيت، شاهدت باكستانيَين يتعانقان بفرحٍ عارم في العيد، واكتشفت أن الغرباء يجيدون الفرح، كانت عيديتي أن أسمع صوت أمّي الذي يأتي من بعيد، وكنا نكابر معاً، هي تمزج نبرة الفرح بصوتها المثخن بالحزن وأنا أقهقه عالياً. ومع الوقت لم أعد غريباً على الدوحة، كثير من الأعياد مرّت بسلام دون حزن، بضع مكالمات هاتفية وينتهي الأمر. 2012 البلاد تنزف على مسافة ثمانية عشر شهراً، رمضان مرّ سريعاً، بسرعة عشر شهداء في الساعة، لم أعد غريباً، بات الوطن كله غريباً، غريباً على ذاته وجيرانه ومحبّيه، صار الموت ضيفاً دائماً على المائدة السوريّة ، ولا بدّ أن يأخذ ( ضيافته ) في العيد الجديد، لم أعد غريباً، ولكني لم أعد أسمع صوت أمّي هناك. الغرباء يجيدون الفرح و البلاد كذلك، فكل عام و أنتم بخير.