10 سبتمبر 2025
تسجيلكثيراً ما يتم الاختلاف في الأدبيات على أهمية الاعتناء بالبواطن، والتقليل أحياناً من قيمة وتأثير مظاهر الأشياء وزخرفها، ويعدون ذلك زهداً محموداً، أو رقيّاً منشوداً بالنظر فقط لما وراء القشور والظاهر من الأمور ! وفي حقيقة الأمر أجد أنه من الاتزان أن يعادل المرء النظر إلى كلٍ منهما، وأنه من العميق جداً أن يهتّم الإنسان بالإناء الذي يأكل به كاهتمامه بلذّة وجوّدة الطعام الذي يأكله، وألا يعتبر أن المبالاة بالوعاء الذي يحويه فيض اهتمامٍ بتفاصيل غير مُجدية ! لأن الاستلذاذ بالطعم والاستفادة من المطعوم هما تجربة متكاملة لا يمكن فصل تأثيرها على الإنسان ظاهراً وباطناً .. فإن كان الطعم اللذيذ تجربة حسيّة، والأكل المفيد تجربة جسدية، فإن الاهتمام بتفاصيل جمال ما يُقدّم به هذا الطعام وبكيف يُقدّم ومن يقدّمه تجربة وجدانية وروحية خالصة. وقسْ على ذلك، فإن فحوى الكلام مُهم للأفهام، ولكنه ليس من الجليل فقط ما يُقال، وإنما كيف يُقال ومتى يُقال وبأي شعورٍ يُقال .. فإن من البيان لسحراً ! فليس انتقاء جمال اللفظ وزُخرف العبارة ترفاً تُغني عنه جودة المتون، وليس اللطف في كيف يُقال فضلاً يُغني عنه صدق النوايا، وليس اختيار متى يُقال نافلة تُغني عنه قيمة الكلام ! فلا تحقرن من الإناء، لأنك تُعظّم ما فيه، ولا تُقلل من قيمة الشكل لأنك تُعلى معناه، فللنفس ذوقٌ يُدارى، وشعور يُستلذ، وللعين حق التمتع بالنظر، كما للقلب حق التلذذ بأنوار البصيرة، وللروح ما يؤنسها وما يُقرّبها، وما يسمو بها مقامات النور والإشراق بالعناية بكل شيءٍ فيظاهره ومعناه . وما العناية بذلك كله إلا من فيوض الرّقة والتهذيب وانتشار من أنوار الحكمة وارتقاء الوجدان. *لحظة إدراك: لم يخلق الله الأشياء بظاهرها المادي عبثاً، فللمظاهر حقها من العناية والحفاوة والإكرام، وما المذمة إلا لمبدأ (الإفراط ) على كل جانبٍ .. فلا إسرافٌ محمود في الإعلاء من المظاهر على حساب المتون، ولا غلو ممدوح في الاهتمام بالبواطن وإهمال ظاهرها، فلكلٍ مطلبه وحقه في الاكتراث والتبيان دون غلوٍ ولا شطط.