14 سبتمبر 2025
تسجيلتأبى أعاصير الحياة إلا أن تعصف برواسخ كنا نتوهمها، وعظائم كنا نظنها، تأتي الأعاصير على تلك الأوهام المدعاة فتنخلها نخلا، كما تفعل النار بالمعدن النفيس، لا تستريح أو لا تهدأ حتى تنقيه من كل شوائبه، مهما كانت وثيقة الصلة به، لترى بعينيك النفيس خسيسا والعزيز ذليلا والصديق عدوا والقريب بعيدا، وتكتشف بعد فترة يسيرة من هذا البلاء أن رصيدك لم يعد لك، ورفيقك قد ثار عليك، وتتذكر حينئذ قول الشاعر العربي علي بن فضل المجاشعي القيراوني:وإخوانٍ حسبتُهم دروعاً فكانوها ولكن للأَعَاديوخلتُهم سهاما صائبات فكانوها ولكن في فؤاديوقالوا قد صَغَت منّا قلوبٌ لقد صدقوا ولكن عن وداديوقالوا قد سعينا كل سعي لقد صدقوا ولكن في فسادلكن؛ هل خلت الدنيا من نفائس المعادن أم لا زال منها بقية!البقية قائمة وموجودة، والخير لا ينقطع في أمة محمد، وستبقى الأخوة في الحق، الأخوة التي لا تحمل إلا معنى العطاء بلا ثمن، والجود من غير منة أو ادعاء كرم، الأخوة التي تعني مرافقتك من تحب في الضراء قبل السرّاء، وفي البلاء قبل العطاء، الأخوة التى قد تدفع الأخ إلى الإضرار بنفسه أحيانا ليدفع ضررا أعظم عن أخيه؛ ملتمسا الأجر من الله عز وجل، باذلا النصح والمال والجهد في سبيل استنقاذه، كما قال الشاعر:إِنَّ صَدِيقَ الحقِّ مَنْ يَمْشِي مَعَــكْ ******وَمَـنْ يَضُـرُّ نَفْسَــهُ لِيَنْفَعـَكْوَمَـنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَـكْ ****** شَتَّـتَ فِيكَ شَمْلَـهُ لِيَجْمَعَـكْإنها مفهوم آخر غير هذا المفهوم السطحي المتداول على أرصفة التافهين، إنه مفهوم راق لقوم جمعتهم الأخوة الحقة حتى لكأنهم أرواح متعددة في جسد حي، إنهم لم يغلفوا الأخوة بالألفاظ البراقة الخداعة التي تجمل عند الرخاء وتذهب أدراج الرياح عن الضراء، بل هي كما قال الشاعروَلَيْـسَ أَخِي مَـنْ وَدَّنِـي بِلِسَانِـهِ **** وَلَكِنْ أَخِي مَنْ وَدَّنِـي وَهُوَ غَائِـبُوَمَنْ مَالُـهُ مَالِي إِذَا كُنْتُ مُعْـدِمًـا **** وَمَالِـي لَـهُ إِنْ أَعْوَزَتْهُ النَّـوَائِـبُإنها إذا لذة في الحياة يفتقدها من لم يستشعر حنينها، ولم يستلذ بطعمها، ولم يتذوق حلاوتها، فما قيمة الحياة بغير أخ لك في الله يسدد خطاك، ويقوي ظهرك، ويرد غيبتك، وإذا خلا بربه في جوف الليل استقبل ليله بالدعاء لك، دون أن تطلب منه ذلك، أو يخبرك هو بذاك، لأنه في جوف ليله يستمتع بدعائه لأخيه كما يستمتع بدعائه لنفسه وربما أكثر، لأنه يوقن في قرارة نفسه أن الأخوة سمو وارتفاع كما قال الشاعر: وَمَـا المَـرْءُ إِلَّا بِـإِخْـوَانِــهِ ****** كَمَـا يَقْبِـضُ الكَفُّ بِالمِعْصَـمِوَلَا خَيْـرَ فِـي الكَفِّ مَقْطُوعَـةٌ*****وَلَا خَيْـرَ فِـي السَّاعِدِ الأَجْـذَمِومن أبلغ ما قيل في تجسّيد الأخوة الحقة هذه الأبيات لشاعر عربي حدث بينه وبينه أخ له في الله جفوة فافترقا بعد طول عشرة، فقال متألما على ذلك:أبلِغ عَزيزاً في ثنايا القلبِ مَنزله ****** أني وإن كُنتُ لا ألقاهُ ألقاهُوإن طرفي موصولٌ برؤيتهِ ***** وإن تباعد عَن سُكناي سُكناهُياليته يعلمُ أني لستُ أذكرهُ***** وكيف اذكرهُ إذ لستُ أنساهُيامَن توهم أني لستُ أذكرهُ******واللهُ يعلم أني لستُ أنساهُإن غابَ عني فالروحُ مَسكنهُ******مَن يسكنُ الروح كيف القلبُ ينساهُ؟وهنا قصة واقعية حدثت لشاب ثري تعيد لنا معاني الأخوة المفتقدة، فقد ذكروا أن شابا ثريا ثراء عظيماً ، وكان والده يعمل بتجارة الجواهر والياقوت، وكان الشاب يؤثر على اصدقائه أيما إيثار، وهم بدورهم يجلّونه ويحترمونه بشكل لا مثيل له، ودارت الايام دورتها ويموت الوالد وتفتقر العائلة افتقارا شديدا فقلب الشاب أيام رخائه ليبحث عن اصدقاء الماضي، فعلم ان أعز صديق كان يكرمه ويؤثر عليه، وأكثرهم مودةً وقرباً منه قد منّ الله عليه بالمال الوفير، حتى غدا من أصحاب القصور والاملاك والضياع والاموال، فتوجه اليه عسى ان يجد عنده عملاً أو سبيلاً لإصلاح حاله فلما وصل باب القصر استقبله الخدم والحشم فذكر لهم صلته بصاحب الدار وما كان بينهما من مودة قديمة، فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك، فنظر اليه ذلك الرجل من خلف ستار ليرى شخصا رث الثياب عليه آثار الفقر فلم يرض بلقائه وأخبر الخدم بان يخبروه ان صاحب الدار لا يمكنه استقبال أحد!! فخرج الرجل والدهشة تأخذ منه مأخذها وهو يتألم على الصداقة كيف ماتت وعلى القيم كيف تذهب بصاحبها بعيدا عن الوفاء وتساءل عن الضمير كيف يمكن ان يموت وكيف للمروءة ان لا تجد سبيلها في نفوس البعض.. ومهما يكن من أمر فقد ذهب بعيدا ..... وقريبا من دياره صادف ثلاثة من الرجال عليهم أثر الحيرة وكأنهم يبحثون عن شيء فقال لهم: ما أمر القوم؟ قالوا له نبحث عن رجل يدعى فلانا ابن فلان وذكروا اسم والده فقال لهم انه أبي وقد مات منذ زمن فحوقل الرجال وتأسفوا وذكروا أباه بكل خير، وقالوا له إن اباك كان يتاجر بالجواهر وله عندنا قطع نفيسة من المرجان كان قد تركها عندنا امانة فاخرجوا كيسا كبيرا قد ملئ مرجانا فدفعوه اليه ورحلوا والدهشة تعلوه وهو لا يصدق ما يرى ويسمع ولكن...اين اليوم من يشتري المرجان فان عملية بيعه تحتاج الى اثرياء والناس في بلدته ليس فيهم من يملك ثمن قطعة واحدة، مضى في طريقه وبعد برهة من الوقت صادف امرأة كبيرة في السن عليها آثار النعمة والخير فقالت له يا بني اين اجد مجوهرات للبيع في بلدتكم فتسمر الرجل في مكانه ليسألها عن اي نوع من المجوهرات تبحث؟ فقالت اي احجار كريمة رائعة الشكل ومهما كان ثمنها، فسألها ان كان يعجبها المرجان؟ فقالت له نعم المطلب فأخرج بضع قطع من الكيس فاندهشت المرأة لما رأت فابتاعت منه قطعا ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد وهكذا عادت الحال الى يسر بعد عسر وعادت تجارته تنشط بشكل كبير فتذكر بعد حين من الزمن ذلك الصديق الذي ما ادى حق الصداقة فبعث له ببيتين من الشعر بيد صديق جاء فيهما: صحبت قوما لئاما لا وفاء لهم ****** يدعون بين الورى بالمكر والحيلكانوا يجلونني مذ كنت رب غنى ****** وحين افلست عدوني من الجهل فلما قرأ ذلك الصديق هذه الابيات كتب على ذات الورقة ثلاثة ابيات وبعث بها اليه جاء فيها:أما الثلاثة قد وافوك من قبلي ****** ولم تكن سببا الا من الحيلأما من ابتاعت المرجان والدتي ***** وانت أنت أخي بل منتهى امليوما طردناك من بخل ومن قلل ***** لكن عليك خشينا وقفة الخجل !هكذا إذا: ستظل المعادن موجودة لكن المعدن النفيس يبقي قليلا ويحتاج إلى من يفتش عنه جيدا.