11 سبتمبر 2025

تسجيل

ليس بالنووي وحده تتحدد علاقات العرب بإيران

20 نوفمبر 2013

منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، انصرف معظم التركيز في علاقة المجتمع الدولي بإيران على القضايا المرتبطة ببرنامج هذه الأخيرة النووي، وما إذا كانت استخداماته مدنية أم عسكرية. ورغم أن بعض الأطراف الإقليمية، خاصة منها دول الخليج العربية، كانت تشكو باستمرار من وجود مشاكل أخرى مع إيران مثل تدخلاتها في الشؤون الداخلية لهذه الدول ومحاولة زعزعة الاستقرار في بعضها، إلا أن الموضوع النووي ظل مع ذلك المحدد الأساسي في علاقة إيران بدول المنطقة والعالم. الآن ومع ظهور مؤشرات قوية على قرب التوصل إلى اتفاق بين القوى الكبرى (5+1) وايران لحل أزمة الملف النووي، قد يتضح للجميع أن وضع هذا الملف في صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي لأكثر من عشر سنوات لم يكن في الأصل إلا ذرا للرماد في العيون، وانه ومنذ الكشف عن وجود هذه البرنامج أواخر العام 2003، جرى التركيز على الوسيلة على حساب الغاية، وهي تحول إيران إلى قوة إقليمية مهيمنة في عموم منطقة الخليج والشرق الأوسط. تعد إيران - إلى جانب الصين وروسيا - أكثر المستفيدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة، إذ قامت واشنطن على أثرها بإزالة اثنين من ألد خصوم إيران الإقليميين، في الشرق حيث أطاحت إدارة بوش الابن بحكم طالبان، وفي الغرب قامت بغزو العراق وتحطيم آلته العسكرية، التي طالما شكلت التهديد الأمني الإقليمي الأبرز لإيران منذ ما قبل سقوط حكم الشاه عام 1979. خلال العقد التالي انصرفت إيران بدأب لبناء مقومات قوة إقليمية مهيمنة مستفيدة من الارتفاع الكبير في أسعار النفط ومن بيئة جيوبولتيكية تغيرت لصالحها بشدة بفعل التدخل العسكري الأمريكي المباشر، فتحول العراق تدريجيا من خصم إلى منطقة نفوذ مع وصول حلفاء طهران من الأحزاب والتيارات السياسية و الدينية إلى السلطة وسيطرتها على مقدرات الدولة العراقية. بالمثل استفادت ايران من ظروف العزلة الإقليمية والدولية التي فرضت على النظام السوري عقب اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، لزيادة تأثيرها و نفوذها في دمشق بتحولها إلى داعم رئيس لنظام بشار الأسد. كما استغلت إيران العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 وعلى غزة مطلع العام 2009 لتجعل من نفسها قائدا لمحور المقاومة في المنطقة، و لاعباً لا غنى عنه في ميزان الصراع العربي-الإسرائيلي. مع مجيء إدارة أوباما إلى الحكم كانت طهران تعد نفسها للحصاد الأكبر – أي ربط مناطق النفوذ التي بنتها بجد خلال العقد الماضي في المنطقة الممتدة من هيرات غرب أفغانستان، حيث تقطن قبائل شيعية قريبة الى ايران، و حتى ساحل المتوسط في بيروت و غزة، مرورا ببغداد و دمشق. جاء أوباما على خلفية أزمة اقتصادية و مالية طاحنة، كان لا بد من احتواء تداعياتها من خلال لملمة القوة الأمريكية المبعثرة في أرجاء العالم الإسلامي، والتي شكلت النزف الاقتصادي و المالي الاكبر في جسد العملاق الأمريكي. تضرعت طهران أملا بفوز أوباما الذي كان وعد بسحب القوات الأمريكية من العراق بنهاية عام 2011، و من أفغانستان بحلول منتصف عام 2014. شكلت هذه الوعود طلائع الانكفاء الأمريكي في المنطقة، و كانت إيران تتحرق شوقاً لملأ الفراغ. لكن الربيع العربي حل مبكرا مطلع العام 2011 و لما يكن الأمريكيون قد انهوا انسحابهم بعد، ولم تكن إيران قد انتهت بعد من تنفيذ مشروعها، فانقلبت حساباتها رأسا على عقب. صحيح أن الربيع ضرب خصوم إيران (نظام مبارك و القذافي مثلا) لكنه ضرب حلفاءها أيضا (في سورية و انتقلت بعض آثاره إلى العراق). وهكذا وفي الوقت الذي كانت تنسحب فيه القوات الأمريكية من العراق، و تتسلم إيران مواقعها، بالمعنى السياسي، كانت قواعد النفوذ الإيراني في سوريا تتآكل و تنهار. و ما كان بدا و كأنه لحظة إعلان قيام الامبراطورية، تحول إلى كابوس يمكن أن تضيع بسببه استثمارات عقد من التخطيط والتفكير والعمل. وبالتوازي مع ترنح النفوذ الإيراني في سورية، وانفلات الوضع الأمني في العراق الذي يحكمه حلفاء طهران، بدأت العقوبات الاقتصادية الأشد التي تفرض في التاريخ على أي دولة، تشل الاقتصاد الإيراني. هنا فقط بدأ الملف النووي - الذي برز كوسيلة لجعل إيران دولة إقليمية مهيمنة - يتحول إلى عبء يمكن أن يهدد ليس فقط مشروع إيران الإقليمي، بل نظام ولاية الفقيه نفسه. وفي هذه اللحظة التي بلغت فيها الضغوط الاقتصادية و السياسية مداها، حصل التحول في تفكير مرشد الثورة و النخبة الحاكمة المحيطة به، فكان قرار التخلص من رموز التيار القومي المتشدد الذي مثله احمدي نجاد و تياره الشوفيني والمجيء برئيس "واقعي" لإنقاذ ليس المشروع فقط بل النظام نفسه، أما الثمن فهو التخلي عن الأداة التي تحولت من مصدر قوة إلى نقطة ضعف قاتلة، البرنامج النووي. خلال الجولة القادمة من المفاوضات يتوقع أن تعلن إيران تخليها عن معظم خططها النووية، ووضع منشآتها تحت الرقابة الدولية، والاكتفاء بجائرة رمزية تحفظ بها ماء الوجه، وهو استمرار التخصيب بنسبة 3.5 (ثلاثة و نصف) بالمائة التي تحتاجها لأغراض طبية، كل ذلك سيكون في مقابل رفع العقوبات وتطبيع العلاقات مع واشنطن و اعتراف بنظامها وربما ببعض نفوذ لها في المنطقة. بالنسبة لدول الخليج العربية، لن يغير تخلي طهران عن برنامجها النووي الكثير، فهذا البرنامج أعد أصلا ليتم التفاوض عليه وتلقي ثمن التخلي عنه بعد استنزاف الغرض منه ". من المهم ان يبدأ الحديث ومن الآن عن الحد من إنتاج واستخدام الأسلحة التقليدية التي تشكل الخطر الأكبر على المنطقة، وما يجب ان يقلق دول الخليج فعلا هو أن تتمكن إيران من تطبيع علاقاتها مع الغرب ورفع العقوبات الاقتصادية في حين تستمر فيه في تعظيم قدراتها العسكرية التقليدية. أن تغيرا حقيقا في علاقة إيران بالمنطقة لن ينتج عن تخلي ايران عن برنامجها النووي، بل سيكون فقط عندما تقبل ايران ان تكون دولة طبيعية في المنطقة، و ان تتوقف عن التطلع إلى ماوراء حدودها للعب دور مهيمن على حساب الجيران و محاولة التدخل في شؤونهم و فرض رؤيتها عليهم. فقط التغيير في الرؤية و السياسة هو ما يسمح بالتقارب و ليس التخلي عن أدوات للهيمنة و استبدالها بأخرى.