14 سبتمبر 2025
تسجيلأثارت تصريحات الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني والمستشار العسكري للمرشد الإيراني، في أصفهان بمناسبة الذكرى السنوية لاسترجاع إيران منطقة شلمجة ومدينة خرمشهر "المحمرة" من سيطرة الجيش العراقي عام 1983، اهتماماً كبيراً في أوساط المتابعين للشأن الإيراني. صفوي قال إن حدود بلاده "الغربية لا تقف عند شلمجة - على الحدود العراقية غربي الأهواز- بل تصل إلى جنوب لبنان". وأضاف: "هذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط"، في إشارة إلى حدود الإمبراطوريتين الأخمينية والساسانية الفارسيتين قبل الإسلام. وبغض النظر عن المناسبة التي صدرت خلالها هذه التصريحات، فإنها تعبر في حقيقة الأمر عن تفكير ورؤية صانع القرار الإيراني، خاصة وأن صفوي يعتبر من أركان النظام وأحد أهم الاستراتيجيين فيه. كما أنها تعبر من جهة أخرى عن حلم تاريخي مازال يراود الإيرانيين بغض النظر عن نظام الحكم القائم في بلادهم. فما تسعى إليه الجمهورية التي تصف نفسها بالإسلامية لا يختلف بالمطلق عما كان يسعى إليه النظام الشاهنشاهي وأن تباين الإطار الأيديولوجي الذي اعتمده كل منهما –القومية الفارسية في عهد الشاه وخليط من الشيعية السياسية مع قليل من القومية الفارسية في عهد الجمهورية. ففي عهد الأسرة البهلوية التي بدأ حكمها عام 1921 حاولت إيران استغلال فرصة انهيار عدوها التاريخي - الدولة العثمانية – مع نهاية الحرب العالمية الأولى، لإعادة تشكيل المنطقة لصالحها من خلال الهيمنة على العراق، الذي ظل لقرون ساحة صراع عثمانية - فارسية. لكنها فشلت في ذلك بعد أن سارعت القوى الغربية المنتصرة في الحرب إلى تقاسم تركة الرجل المريض، وكان العراق ومنطقة الخليج من نصيب بريطانيا، ولم تلبث إيران نفسها أن وقعت تحت هيمنة البريطانيين الذين سيطروا على مقدرات البلاد وقرراها من خلال شركة النفط الانجلو-إيرانية. بالمثل، لم يؤد انهيار الهيمنة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية على المنطقة إلى تعزيز فرص إيران، خاصة وأن الدولتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، اقتسمتا النفوذ في المنطقة بما يتناسب ومصالحهما خلال الحرب البادرة، فضلاً عن أن الدول العربية المستقلة حديثاً كانت قد شكلت الجامعة العربية كإطار سياسي وأمني عربي، تحول في الفترة الناصرية، مع قيادة مصر للعالم العربي، إلى مركز ثقل إقليمي كان من الصعب تجاوزه. هذه العوائق دفعت إيران إلى اتباع طرق صبورة ومعقدة وغير مباشرة لبناء النفوذ، توسلت فيها وسائل القوة الناعمة، كاختراق المجتمعات المجاورة والتبشير المذهبي. فخلال القرن التاسع عشر نجحت طهران في اختراق شيعة جنوب العراق، وفي القرن التالي، تمكنت من اختراق شيعة لبنان وزيدية اليمن وعلويي سورية. ونتيجة ضعفها البنيوي ووجود عوائق خارجية كبيرة تحول دون تحقيق غاياتها في الهيمنة الإقليمية، وضع الشاه إستراتيجية للتعامل مع الخليج والهلال الخصيب، شملت في مرحلتها الأولى تعزيز القوة الإيرانية في الخليج العربي تحت مزاعم محاربة التغلغل الشيوعي وملء الفراغ الناجم عن انسحاب بريطانيا من شرق السويس. وفي مرحلتها الثانية عملت طهران على تحييد العراق واحتوائه من خلال اتفاقية الجزائر لعام 1975، وتعزيز العلاقات مع إسرائيل ونظامي حافظ الأسد في سورية وأنور السادات في مصر. وباستثناء تغير العلاقة مع مصر وإسرائيل، سارت الثورة الإيرانية على ذات النهج. أما في لبنان فقد استثمرت طهران في بناء حزب الله كذراع عسكري انحصر نشاطه في تحقيق مصالحها وتحويلها إلى جزء فاعل في ميزان القوى العربي - الإسرائيلي. إلا أن إيران لم تنجح مع ذلك في حجز مقعد لها على طاولة تشكيل النظام الإقليمي ورسم مستقبل المنطقة بعد انتهاء الحرب البادرة، بسبب سياسة الاحتواء المزدوج التي فرضت عليها مع العراق من قبل واشنطن. إذ وجدت إيران نفسها مستبعدة من اتفاق الطائف اللبناني ومن عملية السلام التي أطلقها مؤتمر مدريد، فلجأت إلى وسائل العنف لتأكيد وجودها والحيلولة دون تهميش دورها، فاستهدفت بعملياتها السرية السعودية ومصر، كما جهدت لتخريب مفاوضات السلام مع إسرائيل، عبر استخدام حزب الله والفصائل الفلسطينية المعترضة على النهج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن كل ذلك لم يجد بفك العزلة عنها وإشراكها في عملية صياغة نظام ما بعد الحرب الباردة إقليمياً إلى أن لاحت الفرصة مجدداً بعد سبتمبر 2001.تعد إيران أبرز المستفيدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة. فقد قامت واشنطن على أثرها بإزالة اثنين من ألد خصوم إيران الإقليميين، في الشرق حيث أطاحت إدارة بوش الابن بحكم طالبان وفي الغرب قامت بغزو العراق وتحطيم آلته العسكرية، التي طالما شكلت التهديد الاستراتيجي الأبرز لإيران والعقبة التي تحول دون توسع نفوذها الإقليمي غربا. ورغم أن إيران كانت في وضع جيواستراتيجي ضعيف عموماً، الا أنها شهدت حالة صعود في قوتها مستفيدة من الغزو الأميركي للعراق عام 2003. فقد أدى الاحتلال إلى تفكيك الدولة وحل الجيش الذي هزمها سابقاً، وخلق من ثَمَّ فراغ سلطة لم يستطع الأمريكيون ملأه نتيجة عدم وجود قوات كافية لهم على الأرض، فيما كان الإيرانيون مهيأين أكثر للاستفادة من هذا الوضع نتيجة استعداداتهم أثناء التحضير للغزو، فقاموا بدعم قوى وتيارات عراقية معارضة كانوا استضافوها لزعزعة حكم صدام حسين، سرعان ما تحولت إلى ميليشيات قوية بعد عام 2003 حيث جرى تمويلها وتسليحها. وفي الوقت الذي انشغل فيه الأمريكيون بمواجهة "سنة العراق" الذين قاوموهم باعتبارهم محتلين، تحركت القوى والميليشيات الشيعية لملآ الفراغ، واتضح ذلك جلياً مع اندلاع الحرب الأهلية بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير 2006. وعندما قررت الولايات المتحدة البدء بالانسحاب نتيجة ضغوط شعبية وبتأثير الأزمة المالية، كانت القوى السياسية الشيعية وجلها يتلقى دعمه من إيران قد أمسكت بمفاصل السلطة في العراق. وهكذا تمكنت إيران ليس فقط من تحييد العراق بل حتى والسيطرة عليه عبر أدواتها، معتبرة ما جرى نصرا على المستوى الاستراتيجي بعد أن كان العراق هزمها مع نهاية حرب الثماني سنوات. وهكذا ارتسمت معالم قوس النفوذ الإيراني الممتد من مناطق غرب أفغانستان ذات الغالبية الشيعية إلى شواطئ المتوسط، والمعركة التي تخوضها إيران اليوم على امتداد الهلال الخصيب هي معركة تكريس وترسيخ قوس النفوذ هذا، الأمر الذي أخذ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون عنه مؤخراً دون مواربة، "فالتقية" كانت تلزم أيام الضعف، أما الآن فلم تعد إيران بحاجة إليها.