18 سبتمبر 2025
تسجيلللمرة الأولى في أكثر من ثلاثة عقود، تجري إيران محادثات علنية مباشرة مع الولايات المتحدة التي تعتبرها خصمها الأكبر على الساحة الدولية، وتطلق عليها في أدبياتها السياسية والأيديولوجية لقب "الشيطان الأكبر".. إذ جرى خلال هذا الشهر لقاءان علنيان بين نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ونظيره الأمريكي وليام بيرنز في جنيف وفيينا، وبحضور ممثل عن الاتحاد الأوروبي وذلك في محاولة "لإزالة العقبات التي تعترض سبيل التوصل إلى اتفاق لحل أزمة الملف النووي الإيراني". منذ الثورة الخمينية عام 1979، بنى النظام الإيراني جزءا كبيرا من شرعيته في الداخل وبين مواليه في الإقليم على العداء للولايات المتحدة وسياساتها، ومن ثم القطيعة التامة معها، لذلك لا ينبغي أبداً التشكيك بوجود حالة من التنافر بين طهران وواشنطن وذلك منذ أن توقفت إيران عن تأدية دور الحارس للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج بعد سقوط نظام الشاه.. فمنذ ذلك الحين تحولت إيران إلى منافس يسعى إلى الهيمنة الإقليمية وبما يتعارض في كثير من الأحيان مع جوهر المصالح الأمريكية، التي كانت وما تزال تقتضي منع أي قوة إقليمية كانت أو دولية من السيطرة على منطقة الخليج بثرواتها النفطية الهائلة وموقعها الجيوبولتيكي الهام. لكن التناقض مع واشنطن لم يخف يوماً رغبة إيرانية دفينة في التوصل إلى تفاهم معها تعترف بموجبه لنظام الجمهورية الإسلامية بما كانت تعترف به لنظام الشاه قبل الثورة من مكانة ونفوذ إقليمي، لا يتعارض بالضرورة مع جوهر المصالح الأمريكية بل قد يقوم بخدمتها. لذلك، ورغم كل الضجيج الأيديولوجي في الخطاب السياسي للنخبة الإيرانية، والاتهامات التي تكال إلى الخصوم سواء في الداخل أو الخارج بالتعامل مع واشنطن، إلا أن التواصل السري الأمريكي-الإيراني لم ينقطع حتى في أكثر المراحل تأزماً في العلاقات بين البلدين وفي أكثر الفترات "ثورية" في تاريخ الجمهورية الإسلامية. ففي الشهور الأولى لاندلاع الثورة في إيران، أرسل الرئيس جيمي كارتر، وكان بدأ يفقد الأمل في قدرة الشاه على مواجهة غضب الشارع والاستمرار في الحكم، بوزير العدل في إدارته رمزي كلارك للقاء آية الله الخميني في باريس وعرض عليه الاعتراف بحكومة الثورة واحترام الاتفاقات الثنائية بين طهران وواشنطن بما فيها عقود التسليح، وبالفعل جرى استئناف صادرات الأسلحة الأمريكية إلى إيران وذلك كبادرة حسن نية اتجاه حكومة الثورة. كما أفرجت أمريكا عن قطع غيار عسكرية أخرى مهمة جرى شحنها لإيران عن طريق مدريد. وحتى اقتحام سفارتها في طهران ظلت أمريكا تراهن على استعادة إيران عبر تأييدها لحكومة مهدي بازرجان أول رئيس وزراء إيراني في عهد الجمهورية، حيث جرى ترتيب اجتماع له في الجزائر مع مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر زبغينو بريجنسكي.. لكن اقتحام السفارة واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكان رهائن في طهران ثم طرد بازرجان في خضم الصراع بين مختلف قوى الثورة بدد كل آمال واشنطن باستعادة إيران. رغم ذلك، ومع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية مالت إدارة الرئيس كارتر إلى تأييد إيران ضد العراق الذي كان في ذلك الوقت حليفاً لموسكو، بيد أن الفكرة لم تتطور بسبب أزمة الرهائن والخوف من ردود فعل الرأي العام في الولايات المتحدة، لكن إدارة الرئيس ريغن التي خلفت كارتر عادت إلى دراسة الفكرة بعد أن أطلقت طهران سراح الرهائن وردت واشنطن بالإفراج عن صفقة أسلحة جديدة لها، كما قام البنتاجون بتزويد إيران بصور التقطتها الأقمار الصناعية الأمريكية تبين مواقع وتحشدات القوات العراقية على خطوط المواجهة الرئيسة.. وبسبب الخشية من افتضاح العلاقات العسكرية مع طهران، أوكلت واشنطن ملف تسليح إيران إلى إسرائيل، لكن التحالفات تغيرت عندما بدأت كفة إيران ترجح خلال معارك عامي 1982-1983، فقام دونالد رامسفيلد مبعوثاً عن إدارة الرئيس ريغان بزيارة بغداد، ومهّد لعودة العلاقات بين البلدين في عام 1984، هذا في الوقت الذي ظلت فيه إسرائيل تزود إيران بالأسلحة الأمريكية حتى انكشف أمرها عام 1986.بعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية ووفاة الخميني، حاول الثنائي خامنئي- رفسنجاني تنشيط قنوات الاتصال مع الأمريكيين، لكن هؤلاء لم يعودوا مهتمين كثيراً باستعادة إيران بسبب انتهاء الحرب الباردة واعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، بيد أن هذا لم يمنع تجدد المحاولة مع الرئيس خاتمي الذي خاطب الشعب الأمريكي عبر قناة السي إن إن في آب 1998، في حين ردت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بما يشبه اعتذارا عن قيام بلادها بدعم الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1953 وإعادة الشاه إلى الحكم. لكن هذه المحاولة لم تتطور بسبب اشتداد الخلاف بين النخب الإيرانية الحاكمة بشكل كاد يهدد موقع مرشد الجمهورية، الذي استخدم العداء لأمريكا سلاحاً في وجه خصومه الداعين إلى تقارب مع الغرب.استغلت إيران أحداث أيلول سبتمبر 2001 لتقدم نفسها لإدارة بوش الابن حليفاً في مواجهة "التطرف السني" الذي ضرب واشنطن ونيويورك، فسمحت للأمريكيين باستخدام أجوائها في غزو أفغانستان، لا بل قامت بنقل جنود أمريكيين على متن طائرات نقل خاصة بها إلى شمال أفغانستان.. لكن إدارة بوش خيبت أمل الإيرانيين عندما ردت لهم الجميل بضمهم إلى محور الشر إلى جانب العراق وكوريا الشمالية. لكن هذا لم يمنع طهران من تقديم المساعدة مجددا أثناء التحضير لغزو العراق، فجرى نقل الآلاف من ميليشيا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة باقر الحكيم فمهدوا للأمريكيين دخول بغداد قبل أن يعيثوا فيها فساداً.أخيراً، كان ملفتاً مقدار السرية التي أحاط بها المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون اجتماعاتهم التي كانت تستضيفها سلطنة عمان منذ وصول الرئيس أوباما إلى الحكم عام 2009، وتكثفت في الشهور الأخيرة لتسفر عن التوصل إلى اتفاق جنيف النووي المؤقت في شهر نوفمبر الماضي.. إذ لم يعلم بهذه الاتصالات حتى أقرب حلفاء واشنطن بمن فيهم إسرائيل، أما الفرنسيون والروس فقد أصيبوا بما يشبه الصدمة عندما جرى الكشف عن حقيقة ومدة هذه الاتصالات، الآن وبعد أن تكشف كل ذلك يبدو أن الإيرانيين خاصة ما عادوا متحرجين من إجراء هذه اللقاءات في العلن، رغم أنهم مازالوا مستمرين في استخدام خطاب العداء لأمريكا أداة للحشد والتعبئة تقل الحاجة إليها أو تزيد حسب مقتضيات الحاجة والظرف.