17 سبتمبر 2025
تسجيلتقول إدارة الرئيس أوباما إنها تنهي هذا العام سحب قواتها القتالية من أفغانستان بغض النظر عما إذا وافقت الحكومة الأفغانية على توقيع اتفاق حول ترتيبات أمنية تنظم بقاء نحو تسعة آلاف من جنودها في هذا البلد حتى العام 2016 وذلك لأغراض تدريب قوات الأمن والجيش المحلية ولحماية السفارة الأمريكية في كابول. وكانت واشنطن قد أنهت في العام 2011 سحب قواتها من العراق دون التوقيع على اتفاقية أمنية مماثلة مع حكومة المالكي، وبذلك تكون إدارة الرئيس أوباما قد نفذت تعهداتها بطي صفحة التدخل العسكري المباشر التي أصبحت سمة ملازمة للسياسة الأمريكية في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث بدأت بغزو بنما عام 1989 ثم حرب تحرير الكويت عام 1991 وتصاعدت في عهد إدارة الرئيس بوش الابن لتشمل غزو أفغانستان والعراق.أوباما يقول إن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً بشكل مباشر بعد الآن (بمعنى إنزال قوات أمريكية على الأرض) إلا إذا استدعت ذلك مصلحة أمريكية حيوية. وسيتم الاستيعاض عن هذه السياسة التي أرهقت أمريكا مالياً واستنزفتها معنويا وأزهقت أرواح الآلاف من جنودها بمقاربة مختلفة تقوم على إنشاء موازين قوى إقليمية في مناطق العالم المختلفة حيث تتكفل القوى الإقليمية المتصارعة بموازنة بعضها، ويقتصر الدور الأمريكي على إدارة هذه الموازين من خلال الدعم المادي والاستخباراتي وتقديم الأسلحة والتدريب للقوات الحليفة. وقد بدأ تطبيق هذه الإستراتيجية في سورية، ثم جرى توسيعها لتشمل الإقليم بأكمله.ففي سورية تقود الولايات المتحدة حرب استنزاف ضد جميع من تصنفهم أنهم خصوم عبر إنشاء ميزان قوى لا يسمح لطرف بالانتصار على الآخر، فهناك يجري استنزاف إيران وأدواتها وأذرعها، كما يجري استنزاف القاعدة وحلفائها. أما إقليميا، فمن خلال الانفتاح على إيران تحاول واشنطن أن تدمج طهران في ميزان القوى الإقليمي بدلا من الاستمرار في عزلها وإقصائها، فيتم احتواء النفوذ الإيراني الذي انفلت بعد إسقاط العراق وشكل ما يشبه قوس النفوذ الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان، عبر إنشاء معسكر مقابل يضم السعودية ومصر والأردن دون أن ننسى دور إسرائيل في هذا الصدد.في أوروبا نجحت الولايات المتحدة في استغلال قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، كتعويض عن سقوط أوكرانيا مرة أخرى في أحضان الغرب، في إيقاظ مخاوف أوروبا التاريخية من السياسات الروسية، والقضاء من ثم على فرص التقارب الألماني-الروسي والتي كانت قائمة على معادلة التكامل بين موسكو وبرلين، حيث تقدم روسيا طاقة رخيصة ويدا عاملة ماهرة لألمانيا في مقابل تكنولوجيا متقدمة واستثمارات ألمانية كبيرة في روسيا. بسبب الأزمة الأوكرانية ضاعت فرص التفاهم الاستراتيجي الروسي-الألماني الذي طالما أخاف واشنطن، حيث بدأت ألمانيا تسعى لإيجاد بدائل عن الطاقة الروسية فيما راحت موسكو تسعى لإيجاد بدائل عن الأسواق الألمانية. هنا أيضاً بدأ يتشكل ميزان قوى تتمكن من خلاله واشنطن من احتواء روسيا وإنشاء حزام صد أوروبي يمتد من استونيا على بحر البلطيق وحتى أذربيجان في عمق القوقاز.أما في الشرق الأقصى الذي تعطيه إدارة أوباما أولوية على غيره من مناطق العالم نتيجة ضمه لأكبر اقتصادات العالم الناشئة وقواه النووية الرئيسة (روسيا-الصين وبالقرب منها كوريا الشمالية الهند والباكستان) فقد اعتمدت واشنطن سياسة ما يسمى التمحور حول آسيا (Pivot to Asia). ومنذ مجيء إدارة أوباما بدأ التركيز على منطقة الباسفيك انطلاقا من أن إدارة بوش الابن وفي غمرة انشغالها بحروب غير ذات معنى على ما يسمى الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي، تركت فرصة للصين التي تشكل خطراً استراتيجيا على المصالح الأمريكية في الشرق الأقصى للصعود وبسرعة كبيرة. لكن واشنطن المتعبة من حروب استنزفتها في العالم الإسلامي لا تريد الانخراط في أي مواجهة جديدة مع خصم بحجم الصين، لذلك لجأت إلى استغلال مخاوف دول المنطقة من الصعود الصيني لإنشاء ميزان قوى هنا أيضا. وقد ساعدت بكين في تحقيق هذه الغاية بدل أن تحول دون ذلك.فتزايد الإنفاق العسكري الصيني بشكل غير مسبوق في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تحولت الصين إلى ثاني أكبر إنفاق عسكري بعد الولايات المتحدة في العالم، فضلا عن فرضها لمنطقة عزل جوي تمتد إلى 300 كم داخل مياه بحر الصين الجنوبي، يضاف إليها نزاعاتها الحدودية مع جيرانها، كل ذلك أدى إلى توتير العلاقات الصينية مع اليابان والفلبين وفيتنام وكوريا الجنوبية وغيرها، فما كان من هذه الدول إلا أن بدأت تتكتل وتتقارب مع واشنطن في محاول لحماية نفسها من الصعود الصيني. وكما في أوروبا حيث تتجه الأمور إلى عملية احتواء روسيا، بدأت واشنطن تعمد إلى احتواء الصين في إقليمها عبر إنشاء تحالفات بين القوى الصغيرة المتوجسة، وعبر حث اليابان على زيادة إنفاقها العسكري ورفع وتيرة تصنيعها الحربي.بهذه الطريقة تكون إدارة أوباما في طريقها للعودة إلى العقيدة الإستراتيجية التي حكمت السياسة الأمريكية منذ مطلع القرن العشرين، حيث يجري إنشاء موازين قوى إقليمية تحتوي من خلالها الأطراف الإقليمية المختلفة بعضها بعضاً وعندما يحين الوقت تتدخل الولايات المتحدة بضربة قاضية للخصم، هذا ما حصل في الحرب العالمية الأولى، عندما تدخلت واشنطن بعد ثلاث سنوات من اندلاع القتال على المسرح الأوروبي لتفرض الاستسلام على ألمانيا بعد أن جرى إنهاك روسيا، وهو ما حصل أيضاً في الحرب العالمية الثانية حيث تدخلت أمريكا في مسرح الحرب الأوروبي في العام الأخير فقط عندما حصل إنزال النورماندي عام 1944 والذي على إثره جرى القضاء على ألمانيا ولكن بعد أن اُنهكت القوى الأوروبية. إدارة أوباما تحاول العودة إلى هذه السياسة وهي تنجح في ذلك بسبب مقاومتها إغراءات التدخل المباشر والضغوط الداخلية والخارجية التي تشجع عليه.