11 سبتمبر 2025

تسجيل

فلسطين ... قضية العرب المحورية

20 نوفمبر 2012

تؤكد عملية أعمدة السحاب العسكرية الإسرائيلية وما يواكبها أن القضية الرئيسية للعرب هي فلسطين وليست مجرد غزة. ليست القضية حصار غزة، أو محاولة فك الحصار، ولا هي فتح المعابر أو إغلاقها. إعلان أن ما يجري فوق أرض غزة هو عمل يتجاوز الإنسانية هو في ذاته إعلان بغياب الوعي عن أن الإنسانية أهدرت فوق أرض فلسطين منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل ـ سويسرا 1897 واختيار فلسطين وطنا لهم، ومنذ وعد بلفور 1917 والذي جاء تحقيقا لزراعة جسم غريب في فلسطين ليحول دون أن يبقي العرب عربا. ما يجري يتجاوز الحديث بأنه اختبار للإدارة المصرية الجديدة وكذلك يتجاوز أنه عملية طرد للفلسطينيين إلى سيناء وتحقيق مشروع تبادل الأراضي الصهيونية بديلا عن الضفة الغربية. ويتجاوز أيضا إرجاع ما يحدث أنه محاولة لكسب الانتخابات من نتنياهو وباراك، أو أنه محاولة لإجهاض الطلب الفلسطيني المقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة للموافقة على قبول فلسطين عضوا مراقبا بالمنظمة. وما تردده بعض من يقال عنهم مصادر مسئولة ـ يفترض فيهم أنهم يحترمون من يتحدثون إليهم ــ بأن إيران تشعل الموقف لتوريط مصر في معركة مع إسرائيل، هو أيضا غياب عن الواقع وهروب من المسؤولية، وإقرار بعدم وجود تصور لدى هؤلاء عن حقيقة أن إسرائيل هي مصدر الخطر الرئيس على مصر والعرب جميعا ولا يحتاج الأمر إلى عوامل خارجية مساعدة. إن ما يجري فوق أرض غزة يفرض على كل العقلاء ألا ينشغلوا بظواهر تحيط بالقضية الأساسية ويتجاهلون القضية الأصلية، إن إسرائيل مصدر الخطر الرئيس. المؤكد أن الواقع العربي بعد عملية أعمدة السحاب سيختلف عنه بعدها، وبقدر ما يصف البعض ما تبقى من الثورة المصرية وما أطلق عليه الغرب "الربيع العربي"، إنه يكفيها أنها أثبتت قدرة الشعب وكسرت حاجز الخوف وكشفت الغطاء عن حقيقة الفساد وقوى الظلام وعجز الساسة وتنظيماتهم، فإن وقائع أعمدة السحاب ستؤدي إلى كشف الواقع العربي كله، ومدى التردي الذي أصابه بشأن حسابات المخاطر وحل الأزمات وليس مجرد إدارتها. وأي محاولة لقراءة الوقائع لا تملك إهمال ما يجري في سوريا والأردن ولبنان وربطه بأعمدة السحاب الجارية. وقائع أعمدة السحاب تعيد للذاكرة عملية القتل لأهل القطاع عام 2008 تحت اسم الرصاص المصبوب حيث اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة، وظل العالم والعرب في موقف يتراوح بين حق إسرائيل في الأمن، ولطم الخدود على الحصار الظالم، وتحولت غزة ومعابرها إلى أيقونة الجدل العربي، وكأن العرب فتحوا خزائن أموالهم وأشعلوا الصراع البيني بينهم مقابل الدم المسال في غزة حينها. تكرار ما حدث في 2008 كان احتمالا واردا في كل لحظة، فليس هناك ما يوقف عجرفة القوة الإسرائيلية، خاصة وأن الأنظمة العربية انغمست في "اللا موقف"، وليطيح تسونامي حركة الشعوب بالأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ويفتح الباب أمام حركة تغيير داخل المجتمعات العربية لم تستقر بعد لتفصح عن نتائجها النهائية. المواجهة الجديدة تحمل سمتين لا يمكن تجاهلهما: الأولى: هي القدرة لدى منظمات المقاومة في غزة على امتصاص الهجمة الأولى، والتي أدت إلى مقتل أحد قادة كتائب القسام، وتدمير بعض مخازن الصواريخ، ثم الرد بما يوحي بوجود خطط مسبقة وتتابع تنظيمي يؤهل لإحلال قيادة جديدة محل السابقة، وأن يصل الرد إلى كشف قدرات تملكها المقاومة ومنها صواريخ يصل مداها إلى تل أبيب وهرتسيليا والقدس وبئر سبع وديمونة، وأيضا امتلاك أساليب وتكتيكات للإطلاق متنوعة، تحافظ على العنصر البشري المقاتل المدرب، وأيضا القدرة على تعويض الخسائر كما أكدت تقارير تتابع الموقف عن قرب، فضلا عن قدرة إنشاء غرفة عمليات موحدة بين التنظيمات، وانحسار نضال الميكروفونات، علامات تؤكد أن هناك بين الرجال، قد بلغ الرشد مبلغه وأن الإعداد لمثل هذا الموقف قد سبق نقاشه والاتفاق عليه. والثاني: أن الحيرة والتخبط والإفلاس يشمل النظام العربي، وبلغ الأمر مداه أنه لا يملك رؤية ويفتقد أي قدرة على الفعل، سوى أن يرفع شعار التهدئة، وإيقاف العمليات العسكرية، بينما يعلن أوباما أن الخطر هو وجود صواريخ في قطاع غزة ويجب إنهاء وجودها، وعلى الجانب الآخر تعلن المنظمات أنها لن تتوقف دون ضمانات، ولم يتضح بعد ماهية الضمانات المطلوبة، أم هو كسب وقت للاتفاق الداخلي على التوقف. تحمل التقارير أن داخل غزة هناك جدل بين خيار المقاومة وخيار السلطة المنقوصة سواء كانت حكومة أو كانت تصورات تنقل الشعب الفلسطيني من حالة المقاومة إلى حالة التعايش مع واقع الاحتلال. هذا الجدل داخل غزة هو علامة صحة ولا يمثل خطرا، ويمكن له أن يخرج من القطاع وينتشر في كل أرجاء فلسطين ليكسر حالة تصلب الشرايين التي أصابت منظمة التحرير الفلسطينية وكأنها شاخت وتجاوزتها الوقائع، وامتداد زمن المواجهة وقدرة المقاومة في غزة على الصمود هي العامل الرئيس لإنضاج حالة الجدل ومحاولة استرداد الحيوية للكفاح الفلسطيني، ليعود ويفرض نفسه على الواقع العربي كظاهرة حياة للأمة العربية بأكملها. يتشابه الموقف في غزة اليوم مع الموقف في جنوب لبنان 2006، كلاهما حمل مفاجأة "الزمن"، فاليوم مر على المواجهة في غزة 6 أيام، ومفاجأة "القدرة" في امتلاك تنوع عالٍ من الصواريخ أرض/أرض وأيضا القدرة على تنويع استخدامها بما يعني أن هناك "رصدا" مسبقا للأهداف وليس مجرد إطلاق لمقذوفات بلا هدف، بل وفرض على إسرائيل تصعيد الحشد من 30 ألف جندي احتياط إلى 70 ألف جندي احتياط، ولم تستطع بعد التقدم في هجوم بري، وهو مصدر التكلفة الرئيس للحرب لدى العدو خاصة إن أضفنا إليه إغلاق مدارس جنوب إسرائيل، بل إن 60% من السكان الإسرائيليين عرفوا الطريق إلى الملاجئ، وسمعوا صفارات الإنذار، وتعرضت تل أبيب ومستوطنات حول القدس إلى صواريخ يصل مداها إلى 80 كيلومترا، سواء أصابت أهدافا أو لم تصبها. خسرت إسرائيل خلال 6 أيام معنويا وأمنيا ما جعل قدرتها تدخل تحت طائلة "عجز القوة"، وهو ما لا تستطيع أن تعوضه بسهولة. وعلى الجانب الآخر صار متاحا أمام العرب فرصة لعلها لا تندرج تحت قاعدة "الفرص الضائعة" إن كانت لديهم الإرادة السياسية لاستيعابها: إنه لا رادع لغطرسة القوة الإسرائيلية سوى كسر نظرية الأمن وبوسيلة القوة، سعيا للوصول إلى لحظة توازن القوة المفقود الآن، وعند ذلك يمكن دعم الحق العربي المسال على موائد المفاوضات دون قوة تدعمه، كما هو الدم المسال سواء في معارك مع العدو، أو معركة الإهمال داخل الأقطار العربية. ودرس الردع تحتاجه مصر إن هي أخذت في الاعتبار الهجمة الإسرائيلية على مياه المتوسط والغاز في أعماقه وعلى منابع النيل والسيطرة على دولها. أن يدرك العرب أن خطابهم لا يعرض رؤية ولكنه خطاب الببغاء يردد ما يسمعه، ولا يملكون إرادة لتوفير الإمكانات لتحقيق غاياتهم والدفاع عن مصالحهم والاستعداد لدفع الثمن وتحمل مسؤولية ذلك. أن يدرك العرب أن أمنهم مرتبط بمفهوم القومية العربية والأمن العربي الواحد ووحدة المصالح العربية وأن الجامعة العربية ليست بديلا لذلك، ولكنها أداة مرحلية. ولعل العرب يدركون أن استبدال العداء مع إسرائيل بعداء مع إيران لا يخدم مصالحهم، فالتخوف من امتلاك إيران لقنبلة ذرية يختلف بالقطع عن امتلاك إسرائيل للقنبلة الذرية ودون رادع عن استخدامها. ولعل العرب يراجعون أنفسهم في إشعال الصراع السني الشيعي. يحيط بالعرب لعنات ثلاث، لعنة امتلاكهم لمنابع البترول، ولعنة الاستبداد الداخلي والمراهقة السياسية والدينية، ولعنة وجود إسرائيل ذاتها، فهل يستطيع العرب إحالة اللعنات الثلاث إلى مصدر للتحدي لامتلاك الإرادة والقدرة؟ هل ينجح العرب في القبض على الفرصة المتاحة أمامهم، أم أن أحاديث التهدئة والإنسانية ستضيع الفرصة؟ هل يستطيع العرب إدراك حقيقة الربيع العربي، الذي استحال إلى الدم العربي والتفكك العربي، أم أن الدرس لم ينته بعد، ومازالت الحاجة إلى دم أكثر وقسوة أكثر وإهدار للفرص أكثر؟.