12 سبتمبر 2025
تسجيليعد يوسف الصائغ من أبرز أعلام الشعر الحديث في العراق والوطن العربي، رغم أنه لم يأخذ حظه من الشهرة كأعلام الريادة: السياب ونازك والبياتي والحيدري وسعدي يوسف، إلاّ أن الرجلَ الذي اكتفى بالانزواء في خضم تجربة سياسية حادّة طالت جميع المثقّفين العراقيين بعد الاستقلال، ترك تجربة شعرية مؤثرة مزجت بين طموح الحداثة وأصالة المنجز الشعري العربي، مازجاً بينهما بتجربة روحية تركتها فيه تربيته الدينية المسيحية. في مهرجان المربد الذي شهد فترة ذهبية ثمانينيات القرن الماضي، وكنت أتابع معظم نشاطاته المبثوثة عبر التلفزيون العراقي، وكان إرساله يصلنا في الجزيرة السورية واضحاً صافياً قبل أيام البثّ الديجتالي، وكنت يومها أخطو عتبة العشرين، مأخوذاً بالشعر، الشعر الذي أدهشني به رجل غريب وغامض اسمه يوسف الصائغ، شعر العراق الذي غمسنا به مواجعنا في أغنيات ناظم الغزالي، عن الفتاة الـ " طالعة من بيت أبوها" و " من ورا التنّور ناوشني رغيف"، كان يوسف الصائغ يعيد الشعر إلى طفولته وبراءته، ذلك الرجل الذي لم ينظر إلى وطنه من ثقب الباب، بل من قلب مثقوب، في إشارة ذكية إلى سنوات السجن التي حطمته. منذ سنوات وأنا أبحث عن آثاره، فلا أجد غير نصوص مبعثرة، في بعض المواقع، إلى أن وصلني منذ أيام قليلة رابط لأعماله الكاملة بصيغة الـ PDF التي تنشط على تقديمها مشكورة مجموعة مواقع وصفحات لناشطين في الأدب. ولعلّ فرحي الأكبر كان بقصيدة المعلم التي تعدّ أحد النصوص المهمة في الشعر العربي الحديث، رغم تردّيها السياسي المباشر في المقاطع الأخيرة، إلا أن ذلك لا يلغي جمالها المتأتي من حوارية بسيطة، يلتقطها شابّ كذكرى ماكثة كوسم: " هي سبّورةٌ/ عرضُها العمرُ/ تمتدُّ دوني وصفٌّ صغيرٌ/ بمدرسةٍ عندَ (باب المعظّمِ)/ والوقتُ/ بين الصباحِ/ وبين الضّحى/ لَكَأنّ المعلمَ يأتي إلى الصفِّ/ محتمياً، خلفَ نظارتيْهِ/ ويكتبُ فوقَ طفولتِنا بالطباشيرِ/ بيتاً من الشعرِ / - من يقرأُ البيت؟/ قلتُ: ـ أنا../ واعترتْني، من الزهوِ في نبرتي رعْدةٌ/ ونهضتُ../ ---على مَهَلٍ / قالَ لي: - تهجّأْ على مَهَلٍ../ إنها كِلْمةٌ... / ليسَ يُخطِئُها القلبُ يا ولدي.. فتحتُ فمِي.. / وتنفسّتُ../ ثم تهجّأتُها، دفعةً واحدةْ / - وطني/ وأجابَ الصّدى: (وطني.. وطني)/ فمِن أينَ تأتي القصيدةُ/ والوزنُ مختلِفٌ/ والزمانُ، قديمْ؟/ كان صوتُ المعلمِ، يسبِقُنا: / - وطني لو شُغِلتُ.. / ونحن نردّدُ: - بالخلدِ عنْهُ/ فيصغي إلينا / ويمسحُ دمعتَهُ، بارتباكٍ/ فنضحكُ/ الله../ يبكي.. ونضحكُ / حتى يضيقَ بنا.. فيهمسُ / - ما بالكم تضحكون / أيها الأشقياءُ الصّغار/ سيأتي زمانٌ../ وأُشغَلُ عنه/ وأنتم ستبكونَ..". ** مات يوسف الصائغ قبل سنوات دون ضجة، وما زلنا نبكي أوطاناً تئنّ بين الوعيد والوعد، على مفترق طرق محيّر، كان معلّم يوسف الصائغ الأوفر حظّاً من كلّ المعلّمين اللاحقين.