11 سبتمبر 2025
تسجيل"وكنت أغسل كآبتي الكبيرة في فنجان القهوة الصغير" غسان كنفاني.. ساقني الحظ لأن أجلس على إحدى الطاولات المترهلة، في احدى زوايا المقهى البعيد عن الأنظار، وعلى تلك الطاولة غير الثابتة، تذكرت أحد الزملاء، والذي يدّعي بأنه لا يستطيع الكتابة، بل إنه لا يستطع أن يُبدع في الكتابة، إلا عندما يجلس في زاويته المفضلة تلك في ذلك المقهى، الذي يتوسط المدينة، ثم يطلب قهوته المعتادة، وعندما تكون حاضرة أمامه قابعة بين يديه، تتبخر بهدوء وتنشر رائحتها بسلام، ليُخرج من جيبه بعد ذلك ورقتين بيضاء قد طواهما بعناية فائقة، ليفردهما على تلك الطاولة، تحت الضوء الخافت والذي يطل عليه من فوق رأسه، ثم يبدأ بالكتابة الحرة، لينطلق في فضاء مُخهِ، ثم يعود لنا بما يدّعي بأنه (إبداع)، والإبداع بريء منه حتى يوم يبعثون. وعلى نفس تلك الطاولة بذلك المقهى نفسه، طلبتُ لي قهوة، بسُكّرها القليل، وبُنها الكثير، ارتشفت منها رشفتين، بعدما حركتها قليلاً، متأملاً رغوتها السوداء، متذكراً حكايتها مع الأدباء والشعراء وقليلي الحظ في هذه الدنيا، وكيف لتلك الفاتنة، أن تشعل فكرةً، وأن تنشط ذاكرةً، وأن تبهج نفساً متأزمة من ضغوط الحياة. فلو بحثنا عن الإبداع، لوجدناه الحاضر بين القلم والورقة، ولو بحثنا عن الحب، لوجدناه الحاضر بين الحبيب وحبيبته، ولو بحثنا عن الراحة والترف لوجدناهما الحاضرين بجمالهما الزاكي. هي الصديقة في الخلوة، والرحيبة في الغربة، هي الدفء في ليالي الشتاء المُقمرة، وهي الأنيس في لحظات تساقط الدموع، وهي التي تجبر خواطرنا بعد الانكسار، وهي التي تمسك بأيدينا بعد الخذلان من بعض تصرفات بني البشر، وهي الشريك الدائم لضحكاتنا مع الأصدقاء في المقاهي المفتوحة على الشوارع العامة. إن للقهوة عمقاً في النفس، لا يمكن أن يدركه عقل، فالبعض يسمّيها وطنا، والبعض يدّعي بأنها الخيط الرفيع من الحرية، والبعض لا يكتب قصيدة جميلة إلا بعد أن يشم رائحتها، كما يقول محمود درويش: (أريد رائحة القهوة، لا أريد غير رائحة القهوة، ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة). وعبثاً أخذت أشم رائحة قهوتي، متسائلاً: هل أنا ممن يحبون شرب القهوة؟ أم أنا ممن يحبون أن يشمَّوا رائحتها؟ عُدت في ذاكرتي لليوم الأول من معانقة تلك الفاتنة، كنت في الفصل الكئيب من ذلك العام، فصل الخريف، قبل ستة عشر عاماً، فقد كنت ملتزماً في الفترة المسائية مع احدى المؤسسات الإعلامية، وكلما دخلت من الباب الرئيسي، استقبلني ذلك الصبي القصير، والذي يعمل في الكافتيريا ليل نهار، بابتسامته الحزينة، وهو يشير إليّ بأصبعيه، إشارة على شكل الفنجان، لتوحي إلي ّ، بأن موعد قهوتك قد حان يا ظافر، فأهز رأسي بالموافقة، ومن ذلك اليوم حتى يومنا هذا أتت العادة. ومن حينها لم يعد بوسعي تركها، بل تطور الأمر، بأن جعلت أهل بيتي يحسنون صنعها، فهي كفيلة بتعديل مزاجي غير المعتدل طوال ساعات اليوم. أشربها ثم أشربها ثم أشربها، حتى تتخلل كل ذرات جسدي، تذكّرني بمزاج فيكتور هوجو وآرنست همنجواي والماركيز، معتقداً بذلك أنني كلما أفرغت فنجاني من تلك الفاتنة، بأنني أصبحت منهم، أصبحت من أولئك العملاقة، الذين بقوا في ذاكرة الأدب كالنبراس المضيء في عتمة الدروب. فأشرب الفنجان بهدوء، لأتذكر اللحظات الأولى للكتابة، أتذكر ميلاد قصائدي، تواريخ حزني وشغفي، ليالي البرد، أتذكر كل شروق شمس مر بحياتي، وكل غروب شمس، أتذكر صديقي الذي وعدني أن لا يغيب، ومات فجأة. تقول رضوى عاشور: (إن التعود يلتهم الأشياء، يكرر ما نراه فنستجيب له بشكل تلقائي، كأننا لا نراه، لا تستوقفنا التفاصيل المعتادة كما استوقفتنا في المرة الأولى، نمضي وتمضي، فتمضي بنا الحياة كأنها لا شيء). وهذا سر تلك الصغيرة الفاتنة، فهي العادة التي تذكرك من دون عناء، تذكرك بكل شيء مر بك، تذكرك تفاصيل المواقف الغالية والرخيصة، فندفع أحياناً بعض الريالات، كي ترى ما تريد رؤيته، في داخل عقلك من مشاهد حياتية، غائبة في حاضرك، حاضرة في مخيّلتك، من إحباطات وتجليات، ضحكات وبكائيات، رحلات ومحطات، عثرات ووقفات، فتكون فيما بعد جزءا من يومك، فلا يمر يومك إلا بعد أن تحتسي قهوتك التي اعتدت على شربها. يقول إحدهم: (إن احتساء القهوة يجعلك ترى العالم بطريقة مختلفة)، وهي كذلك في مرات كثيرة. فمرت الأعوام كالأحلام كالأوهام، ثم غاب ذلك الزميل وغابت أمنياته، ونُسي كل ما كان يدّعيه من إبداع، ولم يتبق له أثر يُذكر، وأظنه قد التبس عليه الأمر، أظنه كان يبدع في تذوقه للقهوة، فلم يكن أبداً مبدعاً في شيء، وغاب بلا رجعة.