14 سبتمبر 2025

تسجيل

وجه ومغترب

20 أغسطس 2013

بمناسبة قرب صدور الطبعة الثانية من كتابي: سيرة الوجع، أنشر اليوم، واحدة من حكاياته: "كان نهارًا صناعيًّا مزدحمًا تخنقه الأدخنة، ورائحة الأصباغ، وأصوات عمال الكهرباء والميكانيكا وعشرات العربات الرابضة بلا روح في انتظار علاج فعّال". كان النهار الحقيقي للحركة والنهار الساتر لعيوب المركبات حين تمرض، وتختفي عن شوارع المرور اليومي. وكان باعة الشاي والقهوة ومياه العطش، ومزاج «البرنجي»، يمرون بإلحاح عشوائي، يجرُّون اللسان الصامت إلى حوار بلا معنى، ويكادون يحقنون بضاعتهم في الدم مباشرة. طقس مباشر ومألوف.. ومُجِدّ أحيانًا، ومضيِّع للوقت في أحيان أخرى. كنت أحتسي قهوة «زنجبيلية» وأتابع عاملًا يداوي سيارتي حين خدش أحدهم سمعي: - ما رأيك في الجمال «البقّاري» يا مغترب؟ التفتُّ.. فوجدته ستينيًّا يبتسم بلا قواطع ولا أنياب.. ويقترب ببصر واهن من بائعة الشاي التي كانت وجهًا قرويًّا ممتلئًا بالأسى والعمر والمصاعب.. رابضًا في تلك البقعة الرجالية دون إغراء أو فتنة. ربما كانت من قبائل البقّارة كما قال.. وربما من قبائل أخرى تلتقي مع البقارة في الفقر والرحيل. حاولت أن أتجاهل الرجل، لكن مناداته لي بالمغترب حيرتني، وحين هممت أن أسأله كان قد اختفى في لُجّة النهار الصناعي. فجأة داهمني معمَّم يحمل وجهًا مجعدًا ويَدَيْن صلدَتَيْن وأوراقًا بها أسماء وأختام وتواريخ قرّبها من وجهي وهو يصرخ: - سامحني يا مغترب.. قال الشاعر: «نزل الفقر كرعين الرجال».. بالطبع لم يقل شاعر ذلك، ولا حتى الولد المستهتر «أ. أ» الذي شتم طالبات الجامعة بقصيدة عنوانها «في ذم حواء» في إحدى أمسياتنا الشعرية في القاهرة منذ خمسة عشر عامًا، وحوَّل المجتمع الطلابي في ذلك الوقت إلى مجتمع خاوٍ يشكو من ركود العواطف، وجفاء المحبين.. أيضًا لم يجرؤ الفقر يومًا على إنزال رجل لأحد من أي وضع اتخذته، لكن فكاهة اللحظة أطربتني، فحاورت الرجل: - لم يقل أحد هذا الشعر من قبل. - بل قال. - أنا لم أسمع به. - لأنك لا تقرأ.. إنه موجود في كتب التاريخ.. والكتب الصفراء. كان المعمَّم متماسكًا وواعيًا ومصرًّا على بيت شعره المعوَّق ورافضًا أي وسيلة لعلاجه.. حاولت تزويده بالبيت الأصلي، فما تَقبَّله، وبدا له إذلال الفقر لأعناق الرجال أشدَّ بشاعة من إنزاله لـ«كرعينهم».. كان متسولًا في لحظة انشغاله بوظيفته.. شَمَّ فيّ اغترابًا وشَمَّ في اغترابي دراهم، وتمسّك ببيت شعر مختل دون ذرة من ارتباك. ضحكت مضاعفًا وسألته عن قضيته.. كانت قصة مرتبكة ومتوقعة عن زوجة مريضة، وعيال مكفوفين، وحريقًا التهم عدة أفدنة في قرية ما. تذكّرت قصة «آدم كذب» التي كتبتها في كتابي «مرايا ساحلية».. وصمتُّ لحظة أحصي خسائر الرجل وتكاليف ترميمها فوجدتها عدة ملايين من الجنيهات.. قلت للرجل: - أعطيك الآن عشرة آلاف من الجنيهات فمن أين تأتي بسبعة ملايين؟ خاطبني بنفس وجهه المتماسك: - مِن غيرك بالطبع.. هل تظنني سأقف عليك وحدك؟ ثم ابتعد حاملًا قصته ليرتبك بها في مكان آخر.