17 سبتمبر 2025

تسجيل

صراع سيبراني بين واشنطن وبكين!

20 يونيو 2023

قال أحد خبراء الأمن السيبرانى في ثمانينيات القرن الماضي - وذلك قبل أن يشهد هذا الفضاء وأدواته هذا التطور المذهل- إن الفضاء السيبرانى سيكون في المستقبل ساحة الحرب الرئيسية بين الدول. يوفر الفضاء السيبرانى للدول والجماعات المتطرفة والقراصنة كثيرا من الميزات التي لا يوفرها أية مجال آخر للصراعات. يأتي في مقدمتها-ولعل أهمها جميعاً- ميزة طمس الهوية الشخصية والمكانية. بمعنى، أن الدولة التي تتعرض لهجمات أو حرب سيبرانية تجد صعوبة بالغة للغاية في معرفة الدولة الفعلية وكذلك الشخص الفعلي المنفذ لتلك الهجمات. حيث ينفذ تلك الهجمات أشخاص "مجهولو الهوية" في فضاء غير مرئي. والأخطر من ذلك، أن هؤلاء الأشخاص أو تلك الدول المتورطة في الهجمات تقوم بتنفيذها عبر تقنيات إعادة توجيه عبر دول عدة، بحيث يتعسر للغاية تحديد المصدر الحقيقي للهجمات. من الميزات الرئيسية الأخرى، هي سهولة التنفيذ والاختراق والسرعة في التنفيذ. إذ كما نقرأ عادة من روايات تشير بتمكن قراصنة مراهقين من اختراق شبكات معلوماتية حساسة لدول عظمى. يضاف إلى ذلك أن السرعة الفائقة التي تنفذ بها الهجمات تتسبب في إرباك شديد وصعوبة في تحديد مصدرها ومحاسبة مرتكبيها. خلال الأعوام القليلة الماضية، احتل الفضاء السيبرانى مساحة مهمة في إطار الصراع بين واشنطن وبكين الممتد على ساحات كثيرة. بل يمكنا الجزم بأن الفضاء السيبرانى سيكون بمثابة ساحة الصراع الرئيسية خلال الفترة المقبلة لأنه محدد رئيسي للتفوق والانتصار في الساحات الأخرى. غالبا ما تسارع واشنطن في توجيه اتهامات لبكين بعمل عمليات سيبرانية ضد مؤسسات ومنشآت أمريكية أو لأصدقاء واشنطن، وعادة بغرض التجسس وسرقات بيانات حساسة. وكان أحدث هذه الاتهامات في أول يونيو عبر مايكروسوفت وتحالف "العيون الخمس" اللذين قد اتهما الصين باختراق منشآت حساسة للاتصالات وغيرها من خلال هجمات سيبرانية. وعادة ما توجه واشنطن الاتهامات، بما في ذلك الأخيرة، دون تقديم أدلة مقنعة على تورط الصين في ضوء التحديات العسيرة للتيقن من المنفذ الفعلي للهجمات. ولكن على الجانب الآخر، لا يمكن تبرئة الصين تماما من التورط في هجمات سيبرانية في السابق تجاه واشنطن وغيرها، والعكس صحيح. الشاهد في الأمر، أن المواجهة بين الطرفين في الفضاء السيبرانى أصبحت مفتوحة وشبه علانية أو رسمية، كأي ساحة صراع أخرى. ويعزى ذلك، إلى جانب الميزات الكبيرة التي توفرها تلك الساحة، إلى رغبة الطرفين الحثيثة في عدم الصدام الخشن أو العسكري والذى قد يدفع العالم كله إلى حافة الهوية. إذ تخبرنا "واقعية ميرشايمر" أن القوة العظمى المتصارعة على الهيمنة، قوة عقلانية تلجأ إلى الحسم العسكري عندما تنقطع سبل الخيارات الأخرى. فالحرب الباردة بين واشنطن وموسكو قد انتهت دون حسم عسكري، بسبب التفوق الناعم والاقتصادي لواشنطن. وعلى هذا المنوال، فعبر الفضاء السيبرانى يسعى كل طرف إلى اختراق وكشف نقاط ضعف الآخر وتحويلها إلى ميزة نسبية له. إذ على سبيل المثال، تسعى الصين عبر الفضاء السيبرانى وهجماته لاختراق وإضعاف الأنظمة العسكرية التكنولوجية المتطورة التي تتلقاها تايوان من واشنطن. وبالتالي المناورة بالملف التايوانى تمهيدا لضمها للصين دون حسم عسكري شديد الضراوة. ونفس الأمر يحدث ضد الأنظمة العسكرية الأمريكية المتطورة في بحر الصين الجنوبي. وبالمثل أيضا، اختراق بيانات حساسة تتعلق بالتطور التكنولوجي والصحة والاقتصاد والصناعات العسكرية واستخدامها وتحويلها لنقاط قوة نسبية، دون صدام عسكري أو في إطار الصراع الناعم للهيمنة. ويوفر الفضاء السيبرانى أيضا قدرة على التشهير ونشر الإشاعات وتأجيج الحرب المعلوماتية. وبالتالي يوفر هذه الفضاء فرصا عظيمة للدولتين لإضعاف القوة الناعمة للآخر، أو إضعاف شرعية الآخر، أو إحداث إرباك سياسي داخلي. وبطبيعة الحال، كل تلك الأمور ستساهم في عرقلة الآخر في سباق الهيمنة العالمية دون صدام عسكري أو حرب اقتصادية شرسة قد تتطور إلى حرب عسكرية. ونذكر هنا، حملة التشهير والإشاعات والمبالغات الأمريكية التي اطلقتها عبر الفضاء السيبرانى تجاه الصين في بدايات أزمة وباء كوفيد-19. وكان بغرض تحميل الصين مسؤولية عالمية عن نشأة الوباء وانتشاره.