13 سبتمبر 2025

تسجيل

أحمد بن حنبل رحمه الله

20 أبريل 2021

معظم الناس يموتون بموت أجسادهم، فتندثر سيرتهم، ويَمَّحى أثرهم بعد دفنهم، لكن قلةً منهم، يكون موتهم بدايةً لحياةٍ جديدةٍ في الدنيا؛ فتبقى سيرتهم عطرةً في النفوس، ومحبتهم عظيمةً في القلوب، وتمر القرون تلو القرون وكأنهم يعيشون بيننا، فيتحدث عنهم المسلمون في غابات أندونيسيا المطيرة، وقرى السنغال، وبلدات الشيشان، وجبال الجزائر، وصحاري شبه الجزيرة العربية، ومعظم هؤلاء المسلمين لم يقرأوا كتب هؤلاء الموتى الأحياء، ولا يعرفون بدقةٍ ما قدموه لدينهم وأمتهم، ولكنهم يذكرون أجزاء من تضحياتهم ومواقفهم التي حفظت للأمة دينها، وجعلت للشعوب ركيزةً تستند إليها عند مواجهة الطغيان، ومن هؤلاء الكرام، الشيخ الجليل، والعالم الفقيه أحمد بن حنبل، رحمه الله. كان بإمكان ابن حنبل أن يكون غنياً غنى فاحشاً، ويتبوأ مكانةً رفيعةً في الدولة، لو أنه قَبِلَ بتنكيس رايات الإسلام قليلاً، ورضيَ بتمرير الأفكار المنحرفة المخالفة للشريعة السمحاء، لكنه آثَرَ أن يُقدِّمَ لحياته الباقية، فضحى تضحيات هائلة في حياته الفانية، ففي بدايات القرن الثالث الهجري، ظهرت بدعة خَلْقِ القرآن التي تقول إن القرآن مخلوقٌ، والخطورة فيها أنها تعني أن ما يمر على المخلوقات من وجودٍ وشبابٍ وكهولةٍ وشيخوخةٍ ثم موتٍ، تنطبق على كتاب الله، فيصبح هيناً على الناس القول إن أحكامه تصلح لأزمانٍ انقضت، لكنها لا تصلح للحاضر والمستقبل، ورغم الحجج التي ساقها القائلون بخلقه، وادعاءاتهم بشأن عدم المساس بقدسيته، إلا أنهم لم يستطيعوا التغلُّبَ على الاعتقاد الصحيح للمسلمين بأن القرآن كلام الله وليس مخلوقاً؛ لأن قوماً كراماً كابن حنبل وقفوا وقفةَ الإيمان بالله، والاعتزاز بالإسلام، ورفضوا تمرير هذه المقولة. يتثاقف البعض بالقول: هل كان ابن حنبل سيُخلَّدُ في سجلات التاريخ لو لم تظهر تلك البدعة؟، وهو سؤال افتراضي؛ بمعنى أنه يفترض أمراً ثم يبني عليه فكرةً بهدف الغَضِّ من شأن الشيخ الجليل، والجواب بسيطٌ: فتضحيات ابن حنبل كانت مبنيةً على علمٍ وفقهٍ وإيمانٍ في مواجهة حَدَثٍ وقع بالفعل، مما يجعل من السؤال مجرد لغوٍ لا يؤثر في مكانة الشيخ في النفوس والعقول، ولا في دوره كعالمٍ فقيهٍ مُجدِّدٍ. من الأمور اللافتة للنظر، أن التاريخ يُغفلُ ذِكْرَ ملايين المنحنين للطغيان، خوفاً وطمعاً، لكنه يُخَلِّدَ بضع عشراتٍ من الذين شمخوا بقاماتهم وسط هؤلاء المنكسرين، فحين صمتَ علماء السلاطين عن الباطل في مقولة خَلْقِ القرآن، وأخذ الناس يتخبطون في عقيدتهم، برز ابن حنبل وقال: لا، فكانت هذه الـ "لا" الحبل الذي اعتصم الناس به، فسِيقَ إلى السجن، وعُذِّبَ عذاباً هائلاً، وبقي صامداً أبياً، فلا استطاعت سياط الظَّلَمةِ أن تنال من قوة إيمانه، ولا سيوفهم أن توهن عزيمته، ولا جدران السجن أن تمنع روحه من التمتع بالحرية الحقة في رضا الله وطاعته. الملاحَظ، في شعوبنا الإسلامية، أن أبطالها عابرون للحدود والقوميات، فهي ترى فيهم جزءاً من ذاتها، وتَعكس في سِيَرِهم أفضل ما فيها، أو تُجَسِّدُ فيهم ما تتمناه لها في حاضرها المضطرب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ومن هذا المنطلق، لا يمكن دراسة الوجود التاريخي الممتد للشيخ الجليل في إطار فقهه وعلمه اللذين كانا خطوةً هائلةً في إيجاد البناء العلمي والفقهي للشريعة الإسلامية، وتطبيقاتها في كل نواحي الحياة، وإنما يجب أن ننظر إليه كإنسان متفرِّدٍ في شموخه وإصراره على الحق حتى لو كان الثمن حياته، إنه رمزٌ إسلاميٌّ؛ لأن الفكر والعلم عنده اقترنا بالإيمان والعمل، ولم يكونا رفاهاً أو أداةً لتحقيق منافع دنيوية، لقد مَثَّل للمسلمين تجسيداً لانتصار الإرادة مهما تعاظمت قوة واستبداد الذين يريدون كسرها وتحطيمها، فعاش في نفوسهم حياً في حياته، وحياً بعد وفاته. نستلهم، نحن المسلمين، من سيرته زاداً لإيماننا بأن الضعف الطارئ لا يعني موت الأمة، وأن كثرة المصفقين للباطل لا تعني زوال الحق، وأن الصبر على الابتلاء، والتمسُّكِ بالثوابت الإسلامية، هما إحدى ركائز النهضة العظيمة التي ربما لن يشهدها جيلنا، لكننا نبذر بذورها في تربة الإيمان لتتمتع بها أجيالٌ تأتي بعدنا، فتذكرنا بالخير، وتستلهم مثلنا قبساً من كرامة الإسلام وعزته في سيرة الشيخ الجليل أحمد بن حنبل، رحمه الله. [email protected]