14 سبتمبر 2025
تسجيلفي كلّ اتصال هاتفي تختم سلامها بأمنية أن تراني قبل أن تموت، يعزّ عليّ سماع العبارة الأخيرة، فأقفز إلى جواب مُطَمْئِن هو أن مجرّد وجودنا أحياء حتى الآن هو الخير كله، ومن الطمع أن نطلب أشياء باتت تعد من الرفاهية في عرف الشعب السوري، ومن الطبيعي أن أحس بالخجل لحالٍ مثل حالي بينما عشرات الآلاف من السوريات فقدن أولادهن في متوالية الموت السوري. فقدت أمي زوجها مبكراً ، كنت في السابعة عشرة وخلفي سبعة إخوة أصغرهم مازال رضيعاً، وعانت في تربيتنا ما عانت، واستطاعت أن تبني أسرة صالحة ينتفع بها المجتمع، منهم إمام المسجد والطبيب والمعلم ورجل القانون. ولعلّي كمعظم السوريين المغتربين الذين أمضوا سنتين أو أكثر دون أن يزوروا البلاد، وننظر بأمل أن يكون صيف سورية هذا العام بارداً على قلب السوريين، فأستطيع أن أقبل يدي أمي، وأشرب الشاي في حضرتها، و تحكي لي عن الصبر والأمل. وبعد سنتين من المخاض السوري الصعب، أجدني في حضن أمي الكبرى، أقترب من سوريتي، رغم خوفي عليها من فاتورة باهظة، تضاف إلى مدونة الكارثة التي نعيش تفاصيلها، بدا فيها أنّ الموت ليس أسوأ شيء في حياة السوري اليوم ، فثمة التشرد والنزوح والمرض ، وثمة ذلّ لا يتناسب وصرخة الكرامة الأولى، ثمة جوع وأطفال لم يتعلموا شيئاً منذ سنتين أيضاً، ثمة ملايين طرأت تغيرات حادة على حياتهم، ثمة بيوت صارت حطاماً، وأمسى كلّ أهلها في ذمة التراب، عائلات شهيدة ومدن شهيدة وبلد شهيد، لم يعد للسكود من رادع، ولا للبراميل من مهرب، و الطاغية في غيّه. مضى عامان، ومهجر نزار قباني صار حلماً فارهاً لولدٍ في بلاد الفرنجة، يترك المعجنات الحافلة بما لذّ وطاب، ويحن إلى عروسة الزعتر، فليأتِ القباني ويرى بأمّ عينيه أولاداً ينتعلون أكياس النايلون ، ويحملون قصعاتهم في انتظار صدقات العالم، فليأت القباني وليرَ شابات يعرضن للزواج بغرض السترة، ليأتِ وسنشتري له عروسة الزعتر في صحراء الزعتري أو مخيمات كيليس. مضى عامان، جدتي نزحت أيضاً إلى قرية أمّي ـ مصائب قومٍ عند قوم فوائد ـ فجدتي لم تعد تعاتب أمي على عقوقها، على الأقل وهما الآن تحت القصف المترد ، ونذر الحرب الأهلية. توزعت عائلتي الصغيرة بين الممالك السورية الجديدة، ينتظرون ساعات الاتصال الشحيحة ، ليطمئنوا على الأحياء، ويطلبون الرحمة للموتى.. ، تبدو المغتربات الآن جنّة حقيقية، ولكنّهما عامان كرهت فيهما كلّ شيء رغم أنني أحب الحياة والأصدقاء ونزار قباني.