12 سبتمبر 2025

تسجيل

أم المقــــابر

20 فبراير 2022

يحكى أنه في زمن ما كانت هناك بلدة كبيرة،، تعرف "بأم المقابر" وقد اشتهرت بهذا الاسم لأن بها عددا هائلا من المقابر الراقية، المتطورة، فهي تتباهى بالطرز المعمارية الحديثة واستخدام آخر ما توصل إليه المعماريون في هندسة وتشكيل المقابر والقبور، وتوظف أحدث ما توصل إليه العلم في التكنولوجيا والتقنيات الحديثة ونظم المعلومات في تصنيف الموتى وتجهيز القبور، وتعتبر هذه المقابر الحديثة معالم بارزة وفريدة تُميز البلدة، ورغم ذلك، فعندما تدخل هذه البلدة فإنك تتعجب من الهدوء الذي يسيج أجواءها، فبالكاد تسمع أصوات الطيور، وبالكاد تشعر بهفهفات النسيم، السكون يخيم على المدينة، الجميع يتحرك في صمت، الوجوه يعلوها البؤس، والأجساد يعتريها قيح الكآبة وصديد البلاء، ولا عجب، فجميع أهل البلدة يعيشون في رعب الانتظار، وفي ذعر الترقب. كان حارس المقابر مزهواً بنفسه، وبمكانته التي آلت إليه بعد أن رحل حارس المقابر السابق، الذي نهب وظلم، وطغى وتجبر، ولكن لم يستطع أحد أن يثبت عليه شيئاً، لأنه كان من ذوي السطوة والنفوذ، وكان يمثل واجهة لمجموعة أشد خطراً وفتكاً، تحيك الدسائس، وتنتهك الحرمات، وتقترف أنواع الظلم والاضطهاد والعنصرية، كانت وظيفته مقتصرة على تحقيق رغباتهم الجائرة، وإبداء الموافقة الرسمية على كل ما يحدث منهم، بصورة مبطنة لا تكشف حقيقة نواياهم، فلو نظرت إلى أياديهم الناعمة خدعت بها، ولو قلبتها لوجدتها مضجرة بالقسوة وبشاعة الأوزار، وهكذا كان عهد حارس المقابر السابق، وعندما رحل أخذ معه بطانته التي راحت تعيث فساداً في مكان آخر. كانت الطبقة العاملة في المقابر والتي تنقسم إلى أقسام متعددة، تتنافس فيما بينها، لتنال رضا وقبول حارسها الجديد، الذي لا يختلف كثيراً عن سابقه، فكان يُقرّب منه كل من تجمعه بهم المصالح، والصداقات، وصلة القرابة، أما فئة المغضوب عليهم، وهم بقية المتنافسين الطامحين، العاملين بجد وإخلاص في خدمة المقابر، فهم يتسابقون على فتات القاع، بعد أن وعدهم بالتغيير والتجديد وإحقاق الحق، ورد المظالم، ولكن فعلياً لم يتغير شيء في عهده، فهو يسير على خطى سابقه، والعذر في ذلك حاضر دائماً، كأعذار غيره الرثة، فالتغيير يحتاج إلى مزيد من الوقت لحصد نتائجه، حجة بالية أخرى يتحجج بها الضعفاء، وهكذا يمضي الوقت يجر الوقت إلى حيث لا طريق! ولا يخفى أن الحارس القوي يتمتع بفكر نير، ومستقبل ورؤية، يضعها في مخططات متسلسلة ومتلاحقة، مرتبطة بالوقت، وتعتمد آليات واضحة، وخريطة للطريق مفهومة لدى الجميع، فهي ليست خرائط سرية، يطلع عليها البعض وتُخبأ عمداً عن البعض الآخر - فالكل يستقل ذات المركب، والكل حريص على نجاته - كما يشارك فيها كل إدارات وفرق المقابر، فكل فرد منهم له دور لا غنى عنه، حتى لا تنعم بعض الإدارات المحظية، بالعمل والسمعة الطيبة والمكافآت، وتُغيب إدارات أخرى عن المشهد، ويوارى جثمانها التراب، وتُقرأ على أرواح عامليها الفاتحة!! كما أن القوي لا يخشى الآخرين الذين قد يفوقونه ذكاءً وإبداعاً، لأنه حتماً سوف يستثمر جهودهم لصالح العمل في تحسين الجودة، ورفع كفاءة العمل في المقابر الراقية !! ولكن من الواقع المر أن لا يحرس هذه المقابر من كان كفئاً لها، وأن يكون دائما الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، حيث إن التعيين دائماً لا يكون على أساس الأنسب والأكفأ، وإنما تتدخل فيه عوامل أخرى، قد نعلم معظمها وقد نجهل البعض. ومما يثير الدهشة، وجود فئة من العاملين الذين ساقهم القدر للعمل في هذه المقابر قد حكم عليهم بالموت وهم أحياء، فتجدهم يتظللون تحت الأشجار المتفرقة هنا وهناك، يتحدثون إلى الموتى، علهم يستمعون إلى شكواهم، أو يخففون عنهم ألم شعورهم بأن لا جدوى من بقائهم أحياء، بعد ما سلبت منهم طاقتهم وشبابهم ومهاراتهم الفكرية والجسمانية، ويئسوا من أن تستجاب مطالبهم، فهم معلقون ليسوا مع الأحياء ولا تحت التراب مع أموات المقابر. وفي يوم من الأيام انتقل إلى المقبرة عامل جديد مليء بالحيوية والنشاط والطموح، لديه من الخبرة والعلم الكثير، فكان يحاول أن يبعث الأمل في قلوب الآخرين، بينما كانوا ينظرون له في شفقة على علمه وخبرته، التي سيواريها التراب بعد أن يتيقن من حقيقة ما يجري في مقابرهم، وعندما أدرك هذه الحقيقة المؤلمة، وبأن المطاف سينتهي به إلى محادثة الموتى، وانتظار الموت، طلب مقابلة حارس المقابر، فلم يسمح له، لأن سعادته ليس لديه الوقت ليقابل عاملا بسيطا يعمل تحت إمرته، فما كان من العامل إلا أن ينتظره في لحظة خروجه، وعندما خرج حارس المقابر، محاطاً بزبانيته، صرخ العامل بأعلى صوته منادياً: يا خادم المقابر! يا خادم المقابر ! فالتفت حارس المقابر نحو الصوت متعجباً، فاستطرد العامل: نعم أنت، ألست بخادم للمقابر ! ألست مكلفاً بالعمل على راحتها ؟! ألست مناطاً بتقديم الخدمات لها وبمن يعمل فيها ؟ ! ماذا لو غُير لقبك إلى لقب أقرب لحقيقتك ؟! ماذا لو تنادى كما أناديك الآن بخادم المقابر؟ وتستبدل اللافتة التي عليها اسمك من حارس المقابر وسيدها إلى خادم المقابر ؟! هل سترغب في ذلك ؟! هل ستتهافت لتكون خادماً للمقابر وليس حارسها ؟ هل ستجد هؤلاء يلتفون من حولك ويتسابقون لخدمتك ؟! وماذا لو علمت أن جميع من في إمرتك لهم الحق في اختيارك؟! وتقييم عملك؟! وبقاؤك مرتبط بمدى رضاهم عن خدماتك؟! وأن مقامك لن يطول هنا، وإنك راحل ٌ بعد عامين من خدمتك ؟! فهل ستقسو وتظلم وتنهب؟! هل ستظهر نفسك ومن حولك في مقام أفضل منهم؟! أم أنك ستتودد لهم، وتطلب رضاهم، وترد مظالمهم، وتستمع لهم،لأنك ستعلم حينها أن بقاءك مرهون بكل هذا !! عندها امتعض حارس المقابر، ونظر إلى العامل ووجهه يزمجر غضباً، فمن ذا الذي يملك الجرأة بأن يتحدث إليه هكذا؟! فأمر زبانيته بحفر قبر للعامل الجديد الذي قال كلمة حق عند خادم جائر. دمتم بود [email protected]