28 أكتوبر 2025

تسجيل

مدينة

19 ديسمبر 2016

الزيارة التي قمت بها مؤخرا لمدينة بورتسودان، على شاطئ البحر الأحمر، حيث عشت الطفولة والصبا، وإشارات الكتابة الأولى ولملمت ما استطعت من جمر لأكتب به بعد ذلك، لم تكن زيارة عادية. كانت في الواقع زيارة لاستكشاف ما كنت اكتشفته سابقا، وضاعت معظم علاماته أثناء الاغتراب الطويل، لكن لحسن الحظ، تبدو الذاكرة أحيانا عنيدة جدا، بحيث لا تفلت أشياء مهمة عالقة بها، وتبرزها عند الضرورة.مدينة بورتسودان، أو المدينة الساحلية كما أسميها في النصوص، هي المدينة التي ترد إلى ذهني بمجرد أن أبدأ كتابة نص معاصر، تماما مثلما ترد نيويورك إلى ذهن بول أوستر، والإسكندرية إلى ذهن إدوار الخراط، والقدس إلى أذهان كتاب فلسطينيين عديدين. وهكذا، ما أسميه سطوة المدن، واختيارها المتقن لكتابها الذين سيكتبون لها تاريخا وجغرافيا، ربما لن تتوفر بلا كتاب إبداعيين. كانت بورتسودان ترد إلى ذهني بمعالمها القديمة بكل تأكيد، طرقها المغبرة الموحلة، بيوتها التي كانت واسعة، في فناءاتها وضيقة في الغرف، خاصة البيوت التي كان يسكنها موظفو الدولة الصغار، حتى يكبروا وينتقلوا لبيوت أكثر رحابة، وفيها حدائق، وربما أحواض للسباحة. مستشفاها القديم الذي يحاكي القصور المهجورة، في قصص لأجاثا كريستي، ويحتل مساحة كبيرة في وسط المدينة، السينما التي كانت ملاصقة لبيتنا، حدائق الترفيه، مثل حديقة عبود، وحديقة البلدية، حيث يتنزه الناس ويقضون أوقاتا طيبة، وحين أتقدم بذاكرتي سنوات إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث كنت كبرت، وأعمل في ذلك المستشفى العتيق، ولي عيادة في حي طرفي، عشوائي، لا تأتي بالمال ولكن بالحكايات، أجزم أن المدينة كانت تترنح بثقل الهجرات المكثفة التي طالتها من دول الجوار التي ابتليت بالحروب، ومن بعيد أيضا حيث يأتي الناس من الشمال والغرب، آملين في رزق وفير، سمعوا بتوفره في ميناء البلاد الرئيسية، والآن، وبعد سنوات أخرى ممتدة منذ زمن التسعينيات، أرى لمدينة نصوصي الظاهرة بطعمها القديم، وطعمها الذي أضيف بعد ذلك، طعما جديدا تماما، إنه طعم الهوية المشتركة مع كثير من مدن العالم.