11 سبتمبر 2025
تسجيلواهم من يظن أن بنيان الباطل - بعد أن اشتد عوده، واستوى على سوقه - قد يهدمه فرد عابر، أو صرخة حر ثائر، أو استغاثة ملهوف حائر! ليس ذلك من سنن الله في الأرض والأمم. إنّما يهدم بنيان الباطل أفراد متعددون في عصور متعددة، يهزه الأول هزة تباعد ما بين أحجاره، ثم ينقض الثاني حجرًا منه، والثالث آخر وهكذا حتى لا يبقى منه حجر على حجر. كذلك واهم من يظن أن الفكرة قد تمحوها عاطفة، أو تقتلع جذورها ريح عاصفة وإن اشتدت! إن المنهج لا يهزم إلا بمنهج، والعقيدة الباطلة لا تمحوها إلا عقيدة صحيحة، وطول النفس وتقديم الثمن جزء أصيل في قانون النصر والهزائم. ولا ينكر باحث بأن الأمة الإسلامية قد تعرضت عبر سنين طوال إلى غبش فكري، وتصورات منحرفة، تخلت معها الأمة رويدا رويدا عن منهج ربها وسنة نبيها فكان حالها اليوم نتيجة طبيعية لهذا التخلي! ولكن ولأنها أمة حية؛ كان لزاما عليها أن تشتاق أخرى لعز ماض قد ورثته، ومجد تليد قد أضاعته، فتبدأ من جديد مصحوبة بإيمان لا يخالطه شك أن الله ناصرٌ دينه والمؤمنين، مهما كثر عدوهم وتنوع عتادهم إذا ما بذلوا جهدهم: ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ والله يؤهل الأمة بما تبذله كي تستحق هذا النصر (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) إذا فما الحكمة من الابتلاء؟ ولماذا يتأخر النصر (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). وما ذنب الأرواح التي أزهقت؟ وما حال الشيوخ الركع؟ والأطفال الخدج؟ (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) وتلك والله هي المنّة والعطية الحق، والفوز الحسن. إن النصر قد يتأخر؛ ابتلاءً من الله لعباده، وتمحيصاً لهم: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ وقال: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾. فالابتلاء مقصود قبل أي نصر مرتقب، ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾. لقد مرَّ في تاريخ الإسلام حوادث عظيمة نكبت بها الأمة، وتجاوزتها بسلام، مرضت لكنها عوفيت بعد أخذها بالأسباب، وما غزو التتار بلاد الإسلام عنا ببعيد، فهذا ابن الأثير يقول: «لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأُؤخر أخرى، فمَنْ الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَنْ الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنتُ نسياً منسياً» ثم ماذا؟ كانت الغلبة بعد ذلك لأهل الحق، واندحر أهل الباطل، فلا يأس منتظر ولا قنوط، فالنصر قادم لا محالة، ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.