12 سبتمبر 2025
تسجيلأمس رأيت محمد العمر، بعد أكثر من خمس سنوات، رأيته بعين كاميرا الموبايل، وكأنه كبر عشر سنوات، بنظّارة تلمع في وجه الشمس، وابتسامة عريضة لا تناسب نزقه الأبدي، وشعرٍ غلب البياض فيه السواد. لم تكن غير دقائق معدودات، في الطريق بين الدوحة والوكرة، في طريقي إلى العمل، حين تحاورنا بالكلمات، ثم غمزتني أيقونة الفيديو مضيئة، فأجبتها، ورأيت الشاب، أقصد العجوز الذي أمامي، أقصد الطفل الذي يصغرني بعامين أو ثلاثة، ومشينا معًا كلّ تلك الحياة، في دروب القرية، وملعبها، وبيتينا هناك، وأسواق القامشلي، التي يتكفّل مصروفها الأكثر مالًا بيننا.لم يكن محمد العمر مجرّد صديق حميم، فقد كان أخي الثامن، وحين أتصوّره، لا أرى غير اللاعب الشرس، قلعة الدفاع الصلبة، أو لاعب الشطرنج اللعبة التي ليس لي فيها، ولكنه يتبادل فيها الفوز مع أخويّ إبراهيم وجاسم، وأخيه المرحوم علي، أو لاعب منقلة في يده حجارة كسبها، أو لاعب ريشة، نازعته فيها الفوز مباريات كثيرة، في حوش بيتنا أو بيتهم، متّخذَين من حبال الغسيل الشبك الفاصل، ومن خطّ موقّـت يحدثه إبريق الوضوء على أرضية التراب محدّدا اعتباطًا حدود الملعب.حين اقترفت الغياب، قبل نحو عقدين، اختُزل محمد العمر بيديه الأثيرتين، في قصيدة قصيرة وسمت ديواني الثاني، وهما تشرحان الحياة والموت والتفاصيل، وتستأثران باهتمام الأصدقاء وتندّرهم، وبخاصة عندما يشاهد مباراة كرة قدم، فالمباراة التي لا يحضرها محمد ينقصها شيء، الشاب الذي تولّع بالكرة، حتى أخذته من مستقبل كان ينتظره، لمهاراتٍ ومواهب كثيرة، كان يحظى بها.ولكنّي بالأمس، لم أرَ يدي محمد، كانت إحداهما مشغولة بالهاتف، والثانية يضعها على رأسه وهو يتكئ على أكياس القمح والطحين، حيث عمله الجديد، بعد سنواتٍ قضاها في التعليم. لم أر يديه تشرحان الموت والدمار، بل رأيت نظارته الجديدة، وابتسامته المستكينة، وقلبه الذابل، ولم يكن الوقت القليل كافيًا لنتبادل دمعة على خدّ الوقت والخسارات والكارثة وبكاء الراحلين. كانت دقائق معدودات، ابتسمتُ في وجهه (أقصد في وجه الصورة التي ظهرت أمامي)، وأتفقد ما كان من شعره الأسود الواقف. وبعدما أقفلت الجهاز، مستعجلًا، تساءلت: أين يدا محمد العمر؟