10 سبتمبر 2025
تسجيلمن الجليل أن يعي الإنسان أن للحياة مقامات، يصح فيها حيناً ما لا يصح فيها في حينٍ آخر ! وهذه المقايسة أو المعايرة هي المعنى الحقيقي لـ (الحكمة) فهي القدرة على أن تضع الأمر موضعه الملائم بلا زيادةٍ ولا نقصان، والتي لا تتأتى إلا مع النضج والاتزان الفكري والشعوري الذي يتشكّل من دوام التجربة والممارسة. ومع الوقت يطوّر المرء إدراكاً ذاتياً لحكمته الخاصة.. فيعي مثلاً أنه (إذا اتسعت الرؤية.. ضاقت العبارة) حيث يمتلك المرء من البصيرة ومن النظر إلى زوايا أمرٍ ما، ما تعجز عنه العبارة في الوصف والإحاطة بالمعنى، وهنا يأتي مقام الاسترسال المحمود، والإسهاب الممدوح للإيضاح والابانة. ولكنه يعي في المقابل أن الإفاضة ليست ذات اعتبارٍ دائماً، وليست الإطالة ذات جدوى على الدوام، وليست الكثرة مُباركة باستمرار، بل قد تصبح منقصة في بعض المقامات، ومذمة في بعض الأحوال ! فقد تكون الكثرة في الناس غثاءً كغثاء السيل ! وقد تكون المبالغة في الوداد والوصال تعلقاً مكروهاً منفراً ! وقد يكون الفيض في الإنفاق من الوقت والجهد والمال تبذيراً مذموماً وإسرافاً من غير طائل! وقد تكون غزارة الكلمات إسهاباً تتوه معه الأفهام، وتملّ معه الألباب، ويصعب به بلوغ المقصد ! لذلك من الحكمة أن يكون المرء قادراً على استبصار الفارق بين البركة والكثرة، فكم من كثيرٍ منزوع البركة، تماماً كالماء وفرته تُحيي وفيضانه يُغرق ! وليس المعنى من ذلك هو الاختصار والإمساك على كل حال، فقد يصير شُحاً تبور معه كل أرض، وجدب يضمر معه كل إحسان ! بل الاتزان في ذلك مطلب، فلا قلّة محمودة إلا مع استيفاء شرط الفائدة والمنفعة، ولا كثرة مباركة إلا مع اتفاق سياق الحال مع المقال. لذلك قيل: خير الكلام ما قلّ ودّل.. (وخير الكلام قليل الحروف كثير القطوف بليغ اﻷثر) ! لحظة إدراك: ليست الكثرة محمودة على أي حال، بل إن تجاوز الحد في أي أمر يُفسد صفاءه، ويُزيل تميّزه، ويُذهب روعته، ويفقد مع ذلك كله حكمته ووظيفته، ويُضعف أثره وتأثيره، هشيماً تذروه الرياح، لا حصاد له ولا ثمر، غير مُقدّرٍ ولا مُحترم.