12 سبتمبر 2025

تسجيل

ثنيُ الزمان على مسألة السُكّان

19 سبتمبر 2022

تحتل المسألةُ السكانية موقعًا متعاظمًا في هواجس المثقفين والمختصين بالشؤون التنموية الوطنية في بلدان الخليج العربي. وهي مسألةٌ قديمة حديثة، تُستدعى من وقتٍ لآخر على صعيد النقاشات اليومية، بسبب راهنيّتها المتجددة. ولكنها ظلت حاضرةً على الدوام في أذهان الباحثين الخليجيين المهمومين بآثار تعاظم الفجوة بين المواطنين والمقيمين، حتى لقد عُقِدَت في شأنها العديد من النقاشات العلمية، وقُدّمت أوراق بحثية شتّى. تَرجعُ أولى الكتاباتِ التي أثارت موضوعَ القضيّة السكانية، إلى فترة ما بعد الطفرة النفطية الأولى عام ١٩٧٣م. إذ كما هو معروف، حفّزت الطفرةُ الحكوماتَ الخليجية ودفعتها -في العموم- نحو استقدام القوى العاملة بشكل متسارع، لأغراضِ تشغيلها في عمليات تأسيس البنى التحتية. ثم بدأت هذه القضية تأخذُ حِيّزًا هاجسيًّا أوسع مع مرور الوقت، ولاسيّما في مرحلة الثمانينات الميلادية. وسرعان ما زادت وتيرةُ الأصواتِ الناقدة المُنبّهة على تنامي الخلل السكّاني في مطالع التسعينات، بسبب استمرار التدفق المتزايد للعمالة، مقابل الارتفاع النسبي البطيء لتعداد المواطنين. في السياق القطري، بلغ حجم السكان عام ١٩٧١م ١١١ ألف نسمة. وارتفع بشكل كبير عام ١٩٨٦م إلى ٣٦٩ ألف نسمة بأثر مباشرٍ من الطفرة النفطية الثانية الواقعة في ١٩٧٩م. ثم قَفَزَ إلى ٥٥٩ ألف نسمة عام ١٩٩٣م، حيث مثّلت نسبة المواطنين فيه نحوَ ٢٢٪ من مجموع السكان. في عام ١٩٩٦م طوّرت الدولة في قطر مشروع الغاز المُسال، الذي جاء الرهان عليه محفوفًا بشتى الاحتمالات، وكان نجاحه بمثابة الطفرة الاقتصادية الكبرى في تاريخ البلاد، حيث مهّد الطريقَ نحو زيادة نطاق المشروعات التحديثية وتوسيعها، فتوافقت الطفرة الغازيّة مع الطفرة النفطية الثالثة بين عامي ٢٠٠٢-٢٠٠٨م لترفدَ تطلعّات الدولة وتزيد من طموحاتها. ينطوي هذان الحدثان على تفسير دوافع ومقتضيات الاستمرار في جلب القوى العاملة الأجنبية، من حيث وجود تلازم -يبدو واضحًا- بين التحسّن الاقتصادي الناتج عن ارتفاع المدخولات المالية للدولة، وبين حاجتها إلى استثمار جزء مُعتبَر من هذه السيولة في تلبية الحاجات العمرانية الواسعة والمتعددة، وحاجتها الأخرى إلى عدد وافرٍ من القوى البشرية القادرة على القيام بأعباء هذه المشاريع على أرض الواقع. بلغ عدد السكان في قطر ١،٧ مليون نسمة في ٢٠١٠م. ثم وصل التعداد بدايةَ هذا العام ٢٠٢٢م -حسب آخر نشرات جهاز التخطيط والإحصاء على موقعه الرسمي- إلى ٢،٩٣ مليون، مع تراوح نسبة المواطنين التقريبية بين ١٠-١٥٪ من الحجم الإجمالي للسكان، حتى هذه اللحظة الراهنة. في هذا المناخ المُؤرَّق بآثار المسألة السكانية ومضاعفاتها، جاءت دراسة د. هند المفتاح "التعليم العالي وسوق العمل في قطر: الواقع والآفاق" -الصادرة ٢٠١٧م-، لتحلّل تداعيات التضخّم السكاني العَمَاليّ، وآثاره المباشرة وغير المباشرة على تجانس سوق العمل وأدائه وكفاءته. ذلك أن التخطيط غير المنظّم الذي صاحب عملية استقدام العمالة الوافدة قد جعل منها عبئًا على التنميّة لا عونًا لها. ومن الأطروحات الصادرة حديثًا: دراسةٌ بعنوان "اختلال التركيبة السكانية في دولة قطر: التداعيات والحلول" -صدرت سبتمبر ٢٠٢١ عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- من وضع الباحث عبدالهادي الشاوي المري، الذي يتناول فيها المسألة السكانية القطرية من خلال ثلاثة أبعاد رئيسة. يبدأ أوّلًا باستقراء أسباب الخلل السكاني في ضوء التطور الاقتصادي والمشاريع الاستراتيجية التي صاغتها وأقرّتها الدولة. خلال العقدين الماضيين. ثم يتحول ثانيًا نحو رصد وحصر الآثار السلبية المترتبة على ذلك، في المستويات الاجتماعية والثقافية والبيئية، ومستوى الأمن والسلامة. وثالثًا يختم الدراسة عبر اقتراح جملة من الحلول الممكنة، المستندة إلى دراسة ميدانية موسَّعة أنجزها الباحث، نورد منها على سبيل المثال: أ- احتواء الضغط العالي على الموارد الطبيعية. ب- زيادة القدرة الاستيعابية للقطاعات الخدماتية مع تحسين نوعيتها. ج- إيجاد نظام يوازن حجم العمالة الوافدة ويضبط قضية العمالة المقنّعة أي تلك العمالة الفائضة على الحاجة. تَتسِمُ الدراسةُ الآنفة بالسعة والشمول -المُتوسّطيْن- من حيث معالجتها إشكالية التفاوت السكاني عبر استعراض المسارَ التاريخي، كما واستحضار السياقات الاقتصادية والتقنية المُمهّدة لنموّ الإشكالية، وهذه أبعادٌ لا غنى من استحضارها من أجل فهم الإشكالية وتسكينها وتفسيرها. كما تميّزت بإيراد مجموعة من الإحصاءات المهمة في هذا المقام، واستعانت بالنماذج الإحصائية المتنوعة -مثل معدل المواليد الخام، ومعدل الخصوبة الكلية ومعدل الإحلال الإجمالي- التي قوّمت من منهج التحليل لدى الباحث. وذلك بالرغم من القصور الذي شابَ بعض جوانب الدراسة، مثل الطابع العمومي الذي وَسَمَ إحصاءاتها، ولاسيّما في مواضع اقتضت قدرًا من التفصيل. إن سبب تحوّل القضية السكانية من إشكالية طبيعية إلى مسألة مُعقّدة، هو لأن الحل الخاص بها لا يمكن أن يكون جذريًّا، بل نسبيًّا، ومأخوذًا به على مدى طويل. أي أن فيه من التسديد والمُقاربة الشيء الكثير. تفترض نسبيّةُ الحلِّ هنا بالدرجة الأولى: توفّرَ الحدّ الأدنى المتوسّط من تفهّم أسباب ودوافع وإشكالات التفاوت الهائل بين عدد المواطنين والوافدين، مع أهمية النظر إلى هذه القضية بمقاييس الحاجة المستمرة إلى المشاريع التحديثية المتجددة، في أُطرها المحلية والإقليمية والعالمية. إلى جانب التنبّه لواقع الحتميّة التي فَرَضَها التنوّعُ الوظيفيُّ الكبير داخل الدولة من جهة، وكرّستها الطبائع الوظيفية وإلزاماتها من جهة أخرى، من قبيل: وجود وظائف غير ملاءمة لجماعة وأفراد مُعيّنين، ولكنها تتلاءم مع آخرين، ولأسباب خارجة عن إمكانات الطرفين. بعبارة أدق، هناك -ومثلما هو مشهود- مجموعة من الوظائف التي ليست تتناسب والشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية العالية لدى عموم الشعب في قطر، ولكنها تأتي متوافقة مع مقتضيات الوضعية التاريخية لدى الفئات العاملة من بعض مناطق آسيا وأفريقيا. وهو توافق يُعدّ -بشكلٍ رئيس- نتاج السيرورة الاستعمارية العنيفة وتشكيلاتها الجائرة. ورغم كونه يُعبّرُ عن مشكلةٍ حقيقية، إلا إنه يتبدّى في هذا الظرف بصفته الخيار الوحيد الممكن لمواجهة المشكلات القائمة في بلدانها، خاصّةً مشكلات الفساد والفقر والبطالة، فتكون المحصلة النهائية -بكل ضراواتها وآلامها- هي تحوّل القوى البشرية الوافدة إلى العمل في مهام البنى التحتية اليومية الشاقّة، بدلًا من القوى البشرية المحلية. كما أن نسبيّة الحلِّ بالدرجة الثانية تستلزم: البحثَ عن حلولٍ-وسطْ، واقعيّة وفعّالة. وهنا لا بد من استدعاء ثلاثة محاور، من الصعب استنباط أفضل الحلول الممكنة الفاعلة من دون النظر فيها أو تطبيقها أو البناء عليها: ١-تأسيس لجنة وطنية استراتيجية -مستقلة بيروقراطيًّا، ولمخرجاتها النهائية آلية مرنة من النفاذ- تضم ممثلين من الوزرات ذات العلاقة ومن المؤسسات الخدمية، ويتقدّمها نخبة من الباحثين/ات القطريين/ات. ٢- صياغة رؤية وطنية خاصّة وجديدة بالمسألة السكانية -بناء على المعطيات السائدة والتحديات المحتمَلَة- في مُدَدٍ ثلاثٍ متباعدة، قصيرة ومتوسطة وبعيدة. تستهدف تقريب الموازنة السكانية وتحسين معادلتها في المستقبل القريب، ومن وجوه ذلك: تحجيم مشكلة الطلاق والعنوسة المتفاقمة، ودعم مشاريع الزواج عبر إجراءات وضوابط مادية وتنظيمية تحد من أعبائها وتكاليفها. وهذه الرؤية في واقع الحال لا تخلو في منطلقاتها من بُعدٍ أمني ضروري. ٣- وضع مشاريع الدمج الاجتماعي المدروس بعين الاعتبار، بما يتيح إعادة إنتاج المكون الاجتماعي على نحوٍ يتناسب مع هُويّة البلد وثقافته ولغته. وهذا يستدعي إرساء معايير ثابتة ومتحولة لعملية الدمج/الاندماج. فمن المعايير الثابتة: مركزية الانتماء العربي والخلفية الإسلامية لأي شريحة جماعية أو فردية مُحدَّدة، معيار الولادة في قطر، إضافةً إلى معيار التعاقب الجيليّ [مفرد أجيال] المُقيَّد بإطار زمني. ومن تلك المعايير المتحولة: الكفاءة والجدارة، والاستحقاق المُتأتّى من تقديم الخدمات الجليلة للبلد. ختامًا، ولأنّنا نعيش في زمانٍ متسارعِ الخُطوات، ومتلاطم السياقات، وفائضٍ بالتحديّات، فالحق أنه لم يعد للتفضيلات ولا للرغبات هامش واسع في حاضرنا، بل أصبحنا في حاجةٍ دائمة إلى ابتكار الحلول التي تناسب مرحلتنا التاريخية وتحولاتها واستحقاقاتها، وهي حلول أقصى ما نستطيعه منها هو تقريب الفجوة بين المثال والواقع.