13 سبتمبر 2025
تسجيليرى الأدب المكان بمبالغة مثيرة في الوصف، فيرى في كومة حجارة حياةً وبشراً، وهو ما ألفناه في القصيدة منذ طفولتها الجاهلية، وما جعل الوقوف على الطلل واجباً شعرياً، وفي المقابل تغنّى الأدب بالمكان الجديد أو المكان الحُلمي إن صحّ التعبير، المكان الذي تطير إليه الحمامة ونحن في السفينة، المكان الذي نفزع إليه بعد هدوء الطوفان.. إذ تظهر مفردة "الأرض الجديدة" كطوق نجاة في النزوحات الكبرى، وظلت كلمة جديدة لصيقة أمل لأسماء المدن والقرى والأحياء المتناثرة في العالم كنيويورك ونيو أورليانز القاهرة الجديدة وغيرهما. وما "جادك الغيث" إلاّ تطوير فنّي رفيع لـ "قفا نبكِ" بثراء لوني، بفارق أن الشاعر الجاهلي كان يقف على ذكرياته مع آثار البيت، وأن الشاعر الأندلس كان يستبطن في حضرة الجمال قلقاً من الطرد، الطرد الذي وسم التاريخ البشري منذ الأب الأوّل. وقف السوريون على الرحيل بين "قفا نبك" و "جادك الغيث"، في حراك نزوحي طال نصف سكانها تقريباً، فلم يبق منهم من لم يبكِ على دار، أو يأسى على حال جار، وقفوا على الديار التي " أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ" أو تلك البلاد العامرة التي فقدوا فيها الأمان فلم يعد "المقام بها إلاّ من الغلطِ". في الحرب الدائرة على سوريّين بأيدي سوريّين قفزت إلى صدارة الأخبار العالمية أسماء كثير من المدن و الأحياء والقرى السورية، عرف الناس حارات حمص وقرى درعا، ومناطق أخرى أذكت معرفتها قصيدة كما فعل السوري حسن إبراهيم الحسن الذي يدوّن يوميات الحيّ الصغير هنانو في مدينته حلب وهو يتعرض للقصف اليومي:"هنانو.. شارعٌ يحتلُّ خاصرةَ المدينةِ مثلَ حرفٍ زائدٍ، تمحوهُ طائرةٌ، وتكتبهُ ابتسامةُ طفلةٍ ما بينَ قنبلتينِ تلهو بالشظايا هنانو.. سيرةُ الحربِ التي تتزوجُ القتلى وتنجبُ نازحينْ"، وبالفعل ينزح الشاعر إلى تركيا فعلاً، بعد صبر ومغامرة بقاء، وصار رقماً يعبره عدّاد النازحين.ولكنّ المسافة بين الحسكة ولندن أبعد ممّا بين هنانو وعينتاب، وإليها شدّ الرحال الشاعر السوري الجميل معشوق حمزة، أستاذي وزميلي في العمل هنا في قطر، وكان سبقني إليها بخمسة أعوام. وقد عرفته شاعراً بكلّ معنى الكلمة، تقرأ في ابتسامته وكلماته عمقاً إنسانياً ومعرفياً، وقد تزامن صدور ديوانه الأول "في أي رحم من السنة القادمة" عام 1983 مع انتسابي إلى معهد إعداد المعلمين، فدرسنا وأهدانا ديوانه الذي كان من محرضات القصيدة عندي.يكتب الشاعر من لندن بالروح التي كتب بها صقر قريش عن نخلته الغريبة في الأندلس، وبروح ابن عباد المخلوع في أغمات، يكتب بروح عبد الكريم الكرمي عن بيته ومحطّ ذكرياته، متذكراً الحسكة المدينة الطيبة التي شهدت تآلفاً جميلاً بين الأديان والأعراق :"قـد كانَ ليْ بيـتٌ و أنـتِ شـرفتُهُ وكـان ليْ قـوتٌ وأنـتِ لـذّتـُـهُ/ ضاعـتْ أمانينـا بقيْـتِ أمنيتـي/ رغـم الأسى فينا عرّشتِ داليتي/ إنْ كانَ ليْ وطنٌ.... فأنـتِ والحَسَكَهْ/ فيهـا أنـا ملـكٌ.. وأنـتِ ليْ مَلِكَهْ!"زمان الوصل السوري يُستقطر في نصوص لا تمتلك غير يقين يابس، يقين لم يبعد عن الأرض الجديدة، بقدر ما بات يفكّر في تكوين وطن من اللغة.