13 سبتمبر 2025
تسجيلأبحث عن غيمة ماشيتها صغيراً، عن دربٍ سعت فيه خطاي، عن دوابّنا التي أخذتها إلى مراعٍ بعيدة، عن بيدر العدس الذي ركضنا فوقه، أبحث عمّن يعيد لي طفولتي، عمّن يدفع لي نفقة هذا الحلم الباهظ، الحلم الهارب من السكاكين والذئاب والضباع، أبحث عن جملةٍ قالها أبي، عن ضحكته، عن ثيابي الفقيرة، أبحث عمّن يسدد أقساط الحياة البليدة، ويأخذني إلى الغدير الذي تخطيناه بقفزات طويلة دون أن نغطس في مائه الضحل، أبحث عن شوارع من صخب، ملأتها عربات البطيخ الأحمر، و سلال العنب والتين، أبحث عن أغنية رددناها تحت المطر " مطر مطر عاصي".لم نكن طيبين كما ينبغي، ولكنّ الحياة علّمتنا أن نطاردها بسكاكين نظيفة، لم نكن نحنو على الطفولة كما ينبغي، ولكنّنا تركناها خلفنا عالية خضراء، الموت هو الموت، ولكنّنا وجدنا بطولة تنتظر القاتل، وقصيدة تنتظر الشهيد، وسوقاً ومقاهي ومكتبات عامّة، ومستشفيات تمتلئ ردهاتها بالزائرين، بيوت الشَّعر للعزاء بعد أن كفّت القبيلة عن الترحال، بيوت بأعمدة وأوتاد تعيدنا لبضعة أيام إلى أيام عبس وذبيان.أريد طفولتي في جنيف2 ويمكن أن أصبر عليها إلى جنيف3 بأثر رجعي، أريد الفرات بحجارته السوداء الملساء، أريد جامعة حلب وكليتنا القديمة التي يسمونها سفينة الحبّ، أريد الأرصفة التي اشتريت منها الكتب القديمة، أريد الوعر التي "شممت تربها" جندياً على أعتاب الثلاثين والقصيدة، أريد بيتي القديم في (دمّر البلد) فوق التلّة التي تستضيف مقبرة الحيّ، أريد قطار حلب-القامشلي غاسلاً ركّاب الدرجة الثانية بعجّاج الدير، أريد ملعب الكرة الذي ركضنا عليه طويلاً وقذفنا الكرة صوب كلّ مرمى، إلى أن ملأته بيوت جديدة بناها شباب مطرودون وزوجاتهم من جنّة العائلة الكبيرة، أريد شتاءات المطر، وربيع الموت، أريد النجوم التي تبعثرت في سهراتنا بين غفوة (العقرب) وسهرة ( الميزان)، أريد وطناً يتسع لحروفه، وليلاً يسمع ناياتنا، وكتاباً يحتضن الكتابة.أبحث عمّن يمثلني، بين كلّ نجمتين قبر، وفوق كلّ غيمة مرثية، من يمثّلني غير وسيم زكريا باحثاً عن حضن ولقمة قبل أن يعثروا عليه بقايا جثّة، من يمثّلني غير بائعة الكبريت وهي ضيفة في بلد شقيق، مَنْ يمثلني غيرُ شيخ عجوز في مخيّم، من يمثلني غير أم تطبخ لأولادها العشب بين أطلال البيوت، مَنْ غيرُ ولدٍ يجلب الماء بحذاء من أكياس النايلون، مَن يا ساكني القصور والفنادق، غيرُ بيتٍ قديم، ظلّ هناك معلقاً في الذاكرة، يغنّي أطفاله :" يا مطر يا عاصي، طوّل شعر راسي"؟.