27 أكتوبر 2025

تسجيل

نص

19 فبراير 2013

كان حليمو صاحب المطعم المفخخ في البلدة، هو الوحيد الذي ما اندلقت دهشة في حسائه ولا حامت علامات من العجب حول ملامحه. كانت عاصميته التي أكلتها المحلية منذ عهد، مازالت ببقية من روح ترفس بين حين وآخر، يعرف منابع التشرد، التي عاد منها أحمد الأصلي جيدا، يعرفها من شباب وطيش ومن هواية قديمة كانت تمشي جنبا إلى جنب مع هوايات أخرى مثل لعب الكرة، وتسطير رسائل الغرام الملتهبة. كان يتخيله طوال مدة غيابه، طريحا في شراك شارع النيل يراقب الحياة النهرية وهو يزفر، يتخيله مساعدا في باص شعبي، مراقبا لعربات السادة في فوهة الميريديان، وبالاس، يتخيله ببذاءة الريف يسطو على جحر متسخ في سكن، في حواري أحياء مثل القلعة، و"أبو آدم" وفي أشد حالات التخيل مروءة يتخيله بلا شيء. كان العائد صديقا سطحيا لصاحب المطعم، أحد المغرمين بحليمو بوصفه وتدا اندق في البلدة بمهارة، وكان يمكن أن يندق في أي غربة أخرى ويحيلها إلى وطن. يحب شواء حليمو، وفوله المطهو برائحة حضر بعيدين، يحب اختياره للحم، وتدقيقه في جسد البطاطس قبل شرائه، وشعيرات رأسه القليلة التي تمنحه تميز الثعالب، وحين كان يسمعهم ينادونه بالأسطى، وصاحب الجيب السمين، كانت مفاهيمه تتأكد، لأن أسطى بجيب سمين، ما كان يتوفر في البلدة إلا مرة في القرن، وحين أراد أن يتشرد لعدة سنوات بعيدا عن عطور البلدة الرخيصة، لم يسع إلى مخيلة فقيرة ينحتها، ولا متفلسفين محليين، أو مسافرين موسميين يصفون له العاصمة كما وردت في ملصقات السياحة. كان يريد عاصمة حية وعارية من الزخرفة، يدخلها كما يدخل بيته. استعان بحليمو بالذات، كلمه في أذنه، وعينيه، وعلى مرأى من الناس بإلحاح شديد. أغراه بغسل أوعية ستين يوما عشائية، وتنظيف فوانيس مطعمه وحشوها بالجاز، جلب له دهنا للشعر، وثوبا مطرزا من جلب مهربي الحدود، وبالغ في الإغراء حين نط إلى حراس الحدود اليابسين في حاميتهم المرابطة بعيدا عن البلدة، وسلمهم عشاء دسما من مطعم حليمو، كانت نفقاته على حسابه الشخصي. استجاب حليمو أخيرا لإلحاح الأصلي، اجتمع به على انفراد لنصف ساعة فقط، وأسس له خط سير معوجا يكتظ بالحفر والمطبات وإشارات المرور الحمراء، وفي نهاية خط السير المعوج، رسم له مستشفى الطوارئ، وبوابة السجن، ودله على عدد من كتاب العرضالات، وموردين للتنباك، كان يعرفهم. اغتبط الأصلي بجريرة حليمو التي اعتبرتها زوجته في ذلك اليوم، أقسى جريرة يرتكبها صاحب مطعم في حق ريفي، حللتها بتمعن، وقدمتها على عدد من الجرائر انتعشت في البلدة في سنوات متعاقبة، جريرة عطا الله، عامل البناء الفقير، حين تقدم للزواج من امرأة، كانت عضوا ناشطا، في اتحاد نساء البلدة، جريرة الشاعر إبراهيم، الذي مدح الصحراء اليابسة، وجعل منها عروسا. جريرة عدد من عمال الحدود، سيروا مظاهرة تطالب بانضمامهم إلى دول عدم الانحياز. تلك الليلة، ارتبك حليمو مرارا وهو يعد العشاء لزبائنه، ونام مشوها، كثير الاستيقاظ، كان يحس بآلام في حوضه، وثقل في تنفسه، وبوادر لانفصام في الشخصية، وتأكد في كثير من الكوابيس، إنه شارك في حرب الجنوب الدائرة، ومات من لغم متفجر. انتظر حتى طلوع الشمس، وانفلت قبل أن يتأكد من طلوعها تماما ليلحق بالمسافر ويستعيد خط السير المعوج الذي رسمه.