30 سبتمبر 2025

تسجيل

ماء الوجه

19 يناير 2022

دخل رجل غريب على مجلس أحد الحكماء الأثرياء.. فجلس يستمع إلى الحكيم وهو يعلم تلامذته وجُلساءه، ولا يبدو على الرجل الغريب ملامح طالب العلم، ولكنه بدا للوهلة الأولى كأنه عزيزُ قومٍ أذلّتهُ الحياة، دخل وسلم، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع للشيخ بأدب وإنصات، وفي يده قارورة فيها ما يشبه الماء لا تفارقه، قطع الشيخ العالم الحكيم حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب، وتفرس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك؟ أم لك سؤال فنجيبك؟، فقال الضيف الغريب: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجر، سمعتُ عن علمك وخلقك ومروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمت ألّا أبيعَها إلا لمن يقدّر قيمتها، وأنت دون ريبٍ - حقيقٌ بها وجدير.. قال الشيخ: ناولنها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها ويحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمائة دينار، فرد عليه الشيخ: هذا قليل عليها، سأعطيك مائةً وخمسين! فقال الضيف: بل مائة كاملة لا تزيد ولا تنقص. فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك وأحضر منها مائةَ دينار.. وفعلاً استلم الضيف المبلغ، ومضى في حال سبيله حامداً شاكراً، ثم انفض المجلس وخرج الحاضرون، وجميعهم متعجبون من هذا الماء الذي اشتراه شيخهم بمائة دينار!. دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، ولكن الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة ومعرفة ما فيها، حتى تأكد - بما لا يدع للشك مجالاً- أنه ماءٌ عاديّ، فدخل إلى والده مسرعاً مندهشاً صارخاً: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فوالله ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمائة دينار، ولا أدري أأعجبُ من دهائه وخبثه، أم من طيبتك وتسرعك؟، فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً، وقال لولده: يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيته ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي وخبرتي فرأيت الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَت عليه عزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، وكانت له حاجةٌ إلى مبلغ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه، والحمد لله الذي وفقني لإجابته وفَهْم مراده وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين، ولو أقسمت ألف مرّةٍ أنّ ما دفعته له فيه لقليل، لما حنثت في يميني. إن استطعتَ أن تفهم حاجةَ أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل، إذا لم تستطع أن تقرأ صمت أخيك فلن تستطيع أن تسمع كلامه، الأجمل هو أن تتفقد على الدوام أهلك وجيرانك وأحبابك فربما يكون أحدهم في ضيق وحاجة وعوز، ولكن الحياء والعفاف وحفظهم لماء وجوههم قد منعهم من مذلة السؤال، وكم منا من يحتاج إلى فرج ضيقته فإن قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم من أعظم أعمال البر، فقد فضل أهل العلم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص، كما أوصانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح حينما قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة، فقضاء حوائج الناس أفضل من عبادة الاعتكاف، وفي روايةٍ أخرى عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ). كن من تُقضى عليه الحوائج نحن في دولة قطر والحمد لله أعطانا الله الخير وفتح لنا أبواباً لتفريج كرب العباد سواء عن طريق مؤسساتنا الخيرية التي نثق فيها أو من خلال تعاملاتنا اليومية، وعندنا الفرص العظيمة لجعل هذه المعاملات الدنيوية في عبادة الله، ويجب ألا ننسى دائماً أن هدف وجودنا في هذه الدنيا هو للعبادة، ولا يقتصر قضاء الحوائج على دفع المال فقط، هناك أمور أخرى منها الكلمة الطيبة في وجه أخيك، ووقفتك مع الحق لنصرة ظالم لمظلوم، وإذا كنت مسؤولاً وراعيت حق رعيتك فإنك أيضا تكون قد قضيت حاجة المحتاج لهذه الرعاية، وسوف يجازيك الله عليها ويفرج عنك كربة من كرب يوم القيامة كما أخبرنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام. والإمام الشافعي رضي الله عنه سرد لنا هذه القيمة الأخلاقية في أبيات شعر جميلة نخوض في بحورها: الناس بالناس ما دام الحياء بهم والسعد لا شك تارات وهبات وأفضل الناس ما بين الورى رجل تقضى على يده للناس حاجات لا تمنعن يد المعروف عن أحد ما دمت مقتدرا فالسعد تارات واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أمواتكسرة أخيرة أحبتي في الله لا تدري، لعلك بدعوة صالحة ممن فرجت كربته وأعتقت رقبته وقضيت دينه، تسعد أحوالك، والدنيا محن، والحياة ابتلاءات، فالقوي فيها قد يضعف، والغني ربما يُفلس، والحي فيها يموت، وصاحب الحق قد يصبح عليه الحق، لكن مواقف الرجل الإيمانية الرجولية، التي يلتمس فيها ما عند الله، ويثني عليها عباد الله، هي التي تبقى للدنيا والآخرة، فالسعيد من اغتنم جاهه وماله وقدرته في خدمة الدين ونفع المسلمين، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة) والمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروءات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام: (ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب). الكاتبة الصحفية والخبيرة التربوية [email protected]