15 سبتمبر 2025
تسجيلالعُصاباتُ؛ جَمْعُ عُصاب، هي اضطراباتٌ في الشخصيةِ والاتِّزانِ النفسيِّ، تُسبِّبُها الصراعاتُ النفسيةُ الناجمةُ عن التنشئةِ الأُسَريةِ غيرِ القويمةِ، والتجاربِ الـمُوجِعَةِ الـمُتتاليةِ. وتُضافُ إلى الأسبابِ، بنسبةٍ ضئيلةٍ، العواملُ الوراثيةُ، وعدمُ التوازنِ في الـمُرَكَّباتِ الكيميائيةِ والهرمونيةِ في الـمخِّ. وتظهرُ في مُسْتَوَيَينِ، الأولُ: نفسيُّ يبدو في صورٍ منها القلقُ، والخوفُ، والغضبُ، وانخفاضُ التقييمِ للذاتِ، والتَّشَوُّشُ. والثاني: سلوكيٌّ يتمثَّلُ في التَّهَوُّرِ، والخُمولِ، وتَجَنُّبِ الآخرينَ، والعُزْلةِ، والسَّلبيةِ، والسُّخريةِ، والعدوانيةِ. معظمُ الناسِ عُصابيونَ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ومستوياتٍ مختلفةٍ. فالأبُ الذي يتصرَّفُ بعدائيةٍ مُفرطَةٍ مع أبنائه في سنِّ الـمراهقةِ وبداياتِ الشبابِ، هو شخصٌ عُصابيٌّ يُعاني خوفاً مَرَضياً لا شعورياً بأنَّ دورَهُ في الحياةِ بدأ يصغُرُ، وأنَّ شبابَ الآخرينَ وحيويَّتَهم إيذانٌ بانتهاءِ شبابِـهِ وتضاؤلِ حيويَّـتِهِ. والشابُّ الذي تَعَرَّضَ لصدمةٍ عاطفيةٍ شديدةٍ في سنٍّ مُبَـكِّرةٍ أدَّتْ إلى خَلَلٍ في تقييمِـهِ للآخرينَ، يُصبحُ عُصابياً في تَعامُلِـهِ معَ الـمرأةِ والفنونِ والآدابِ، فيميلُ لا شعورياً للقمعِ والاستبدادِ بحُجَّةِ الحِفاظِ على الأخلاقِ والقِـيَمِ. والفتاةُ التي نشأتْ في أسرةٍ مُضطربةٍ لا يوجدُ فيها استقرارٌ، وتسودُ علاقاتِ الأبوينِ بالأبناءِ فيها القسوةُ أو الإفراطُ في التدليلِ، تُصبحُ عُصابيةً فتميلُ للسخريةِ منَ الذاتِ عَلانيةً كنوعٍ منَ التَّصَرُّفِ الاستباقيِّ الذي يحميها من انتقاداتِ الآخرينَ لأسرتِها. أو تنغمسُ لا شعورياً في التفكيرِ السَّلبيِّ تجاههم حين يتحدثونَ بإيجابيةٍ عن حياتِهِم الأُسَرَيةِ الطيبةِ، وكأنهم يتعمدونَ الإيحاءَ لها بسلبياتِ حياتِها الأُسريةِ. وقِسْ على ذلك في مواضعَ كثيرةٍ من حياتِنا كلِّها. الأمرُ الـمُلاحَظُ في الحالاتِ العُصابيةِ الـمُتقدِّمَةِ التي تتخذُ أشكالاً مَرَضيةً ملحوظةً، أنَّ بعضَها يجعلُ العُصابيَّ يلوذُ بالأشخاصِ الذينَ هم مَوضِـعُ خوفِـهِ وشكوكِـهِ. فإنْ كانوا ذوي وعيٍ وثقافةٍ، ويمتلكونَ حِساً رفيعاً بمسؤولياتِهِم الإنسانيةِ والاجتماعيةِ، فسيكونونَ أسباباً في تخفيفِ اضطرابِ شخصيتِهِ واتِّـزانِـهِ النفسيِّ. أما إذا كانوا ذوي وعيٍ مُتَدَنٍّ وثقافةٍ ضحلةٍ، فإنهم سيُمارسونَ عليه عُصاباتِهم التي تتحكَّمُ بهم لا شعورياً، فيستفحلُ اضطرابُهُ، وقد يصلُ الأمرُ إلى بلوغِـهِ الذُّهانَ، أي الخَلَلُ في كلِّ أو أحد مُكَوِّناتِ التفكيرِ الـمَنطقيِّ والإدراكِ الحِسيِّ. فقد عرفتُ أشخاصاً عانوا تجاربَ مؤلِـمَةً في حياتِهم الأُسريةِ والاجتماعيةِ، نَجَمَ عنها أنَّ دائرةَ مخاوفِهم وشكوكِهم اتَّسَعَتْ لتشملَ الأقاربَ من الدرجةِ الأولى والثانيةِ، والأصدقاءَ، وأصدقاءَ الأصدقاءِ. ولحُسنِ حظِّهِم فإنَّ شخصاً أو أشخاصاً داخلَ الدائرةِ أدركوا معاناتِهِم، فتعاملوا معهم بصبرٍ شديدٍ وعقلانيةٍ، وأصرُّوا على التواصُلِ معهم، فحالوا بينهم وبين بلوغِ الذُّهانِ، لكنهم لم يتمكنوا من علاجِ الحالاتِ العُصابيةِ لأنَّ ذلك لا يكونُ إلا بإشرافِ الأطباءِ النفسيينَ الـمُختَّصينَ. لابد لنا من التوعيةِ دائماً بأنَّ الأمراضَ النفسيَّةَ ليستْ ما نراهُ في السينما العربيةِ التي تُسَطِّحُ القضايا، وتنشرُ احتقاراً للعلمِ والـمعرفةِ في مجتمعاتِنا، وإنما هي كالأمراضِ الجسديةِ، بعضها هَيِّنٌ كالزُّكامِ الذي يشبِهُ في درجتِهِ العُصابَ القائم على اضطرابٍ لا يبدو واضحاً إلا في حالاتٍ محدودةٍ، وبعضُها عُضالٌ قد يستعصي أحياناً على العلاجِ الناجعِ كالسرطانِ الذي تُشبِهُ بعضُ أنواعِـهِ في درجتِهِا بعضَ حالاتِ الذُّهانِ. كلمةٌ أخيرةٌ: إحدى مظاهرِ التقدُّمِ تتمثَّلُ في وجودِ وعيٍ عامٍّ بوجوبِ احترامِ الآخرينَ، والتعامُلِ مع معاناتِهِم النفسيةِ والعقليةِ والحِسيةِ كجزءٍ من معاناتِنا الخاصةِ بحيثُ نسعى جاهدينَ للتخفيفِ من وطأتِها، أو الإسهامِ في ذلك. [email protected]