12 سبتمبر 2025

تسجيل

مشهد الكابيتول: ديمقراطية أمريكا الجريحة

19 يناير 2021

مشهد اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول قلب الديمقراطية الأمريكية مشهد ربما نادرا ما يحدث حتى فيما يسمى جمهوريات الموز. بلا أدنى مجال للشك، سيترك هذا المشهد جراحا عميقة وتساؤلات أعمق حول مصداقية ورسوخ الديمقراطية الأمريكية. حمل الكثير من المراقبين والمسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك بايدن وعدد من رؤساء أمريكا السابقين، ترامب المسؤولية الكاملة عن هذا المشهد الذي وصفوه بوصمة العار في تاريخ أمريكا. قد يكون الأغرب من ذلك، أصوات بعض المراقبين المعظمة برسوخ المؤسسات الدستورية والديمقراطية الأمريكية، التي أقرت نتيجة فوز بايدن في ظل هذه الأجواء المشحونة، ثم سرعان ما عزلت ترامب بعد مشهد الكابيتول انتظارا لمحاكمته بالتحريض على العنف. تحميل ترامب المسؤولية كاملة عن مشهد الكابيتول به مغالطة وإعماء لحقائق جوهرية ذات أبعاد وسياقات داخلية عميقة يمر بها المجتمع الأمريكي منذ أكثر من عقدين. وصول ترامب ذاته إلى سدة البيت الأبيض هو نتاج حتمي لتلك الأبعاد والسياقات المعبرة عن حالة انقسام حاد خطير داخل المجتمع الأمريكي. لا شك أن ترامب وصول إلى سدة البيت الأبيض عبر الآليات الإجرائية الديمقراطية الدستورية (صناديق الانتخابات/ المجمع الانتخابي). لكن ليس المشكلة في ذلك، بل في طريقة وصوله إلى البيت الأبيض التي جاءت عبر أجندة شعبوية معادية للهجرة لاسيما من البلدان الإسلامية، انعزالية متطرفة للغاية، تعكس مزاج قطاع عريض جدا من الأمريكيين، خاصة البيض الأنجليكان. إذن، فالصح الذى يجب أن يقال، إن وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وليس ترامب في حد ذاته، عبر قاعدة تصويت واسعة للغاية، كان كاشفاً لتصدع كبير في النموذج الديمقراطي الأمريكي، وقيمه الليبرالية الراسخة. إذ أصبح المجتمع الأمريكي دون أدنى مبالغة مجتمعا منقسما بين فريقين كبيرين، الفريق الأنجلوسكسونى الأبيض الإنجيلي، وفريق المهاجرين والأقليات واليسار والسود. مع العلم أيضا، أن هذا الانقسام المجتمعي قد امتدت تداعياته على الانقسام الحزبي داخل واشنطن. فكثير من أفكار ترامب المتطرفة تلقى رواجا بين الديمقراطيين. التداعيات على المستويين الداخلي والخارجي يصعب تصور أن أمريكا بعد 6 يناير ستكون هي ذاتها قبل هذا التاريخ، مصداقية الديمقراطية الأمريكية ورسوخها اهتزت على نحو كبير في الداخل الأمريكي. مشهد اقتحام الآلاف من انصار ترامب بكل حماسة وجرأة لمبنى الكابيتول غير عابئين بالعواقب القانونية، وقبلها تشكيك الملايين من انصار ترامب في نتيجة الانتخابات، لا يمكن وصفه إلا بان جوهر الديمقراطية الأمريكية، وليس مؤسساتها وآلياتها الإجرائية في مأزق حقيقي. وخطورة هذا الأمر، أن المؤسسات والآليات وحدها لا يمكن أن تداوى جروح 6 يناير، بل والأهم من ذلك، لا يمكن أن تعالج الانقسام المجتمعي الحاد في أمريكا. فجوهر الديمقراطية الحقيقي، يكمن في قيمها الليبرالية العليا والتي من ضمن ما تشمل احترام حقوق الأقليات، المساواة التامة، احترام المعارضة، المشاركة وغيرها. لا ننسى أن ترامب قد حصد على 70 مليون صوت في الاستحقاق الأخير، بزيادة 11 مليون صوت على استحقاق 2016، وتلك النتيجة في حد ذاتها كبيرة جدا في تاريخ الجمهوريين الانتخابي، لكنها مقلقة للغاية إذ تعكس تنامى الجنوح الشعبوى اليمينى المتطرف المناهض تماما للقيم الليبرالية وجوهر الديمقراطية الأمريكية الحقيقي. وبالتالي، من يرى بأن ترامب سيحكم أمريكا خارج البيت الأبيض محق إلى حد كبير بعد حصوله على هذه النتيجة المذهلة، بل من ذهب أبعد من ذلك بالقول إن مشهد الكابيتول بداية لسلسلة مشاهد ستتوالى أكثر عنفاً وربما تفضى إلى توترات وصدامات داخلية شعبية، كنتيجة لتصاعد التطرف اليمينى الشعبوى محق أيضا على نحو كبير. مشهد الكابيتول، سيكون بلا أدنى شك، بداية لانكسار دور أمريكا الخارجي التقليدي كمروج للديمقراطية، أو كما يسميه أحد المعلقين "دور ناصح الديمقراطية". أجندة نشر الديمقراطية أحد أهم العوامل التي ارتكزت عليها السياسة الخارجية الأمريكية عبر عقود للضغط على خصومها، وتحقيق مآربها الضيقة الخاصة. الرئيس المنتخب بايدن، وضع أجندة نشر الديمقراطية كأحد أهم أولوياته، داعيا إلى العودة إلى حقبة تقليدية أعمق للديمقراطية الأمريكية. بايدن لا يدعو إلى ذلك من باب عشقه للتحول الديمقراطي في الأنظمة السلطوية، بل كتمهيد للضغط على أبرز خصومه وبالتحديد روسيا والصين، وتمزيق الثقة بين تلك الأنظمة وشعوبها، التي لا تزال ترى في أمريكا الحلم المتكامل الذى تتطلع إليه تلك الشعوب للعيش فيه. مشهد الكابيتول المأساوي، وضع بايدن في موقف لا يحسد عليه بشأن دور ناصح الديمقراطية، فكيف سيضغط على تلك الأنظمة، أو يجرؤ فقط على نطق أي حرف ذات صلة بنشر الديمقراطية، بعدما شهد قلب الديمقراطية الأمريكية هذا المشهد العبثي، وقبله مشهد اكثر عبثية بشأن مجريات الانتخابات الأمريكية، والشكوك الكبيرة التي تحوم حول مصداقيتها. قبل يوم من اقتحام الكابيتول، قبضت شرطة هونج كونج على أكثر من 50 من مناصري الديمقراطية، وردت الخارجية الأمريكية ببيان إدانة لهذه الخطوة، ودعمها التام للديمقراطية في هونج كونج. واليوم تحاكم الولايات المتحدة مقتحمي الكابيتول بتهمة الفوضى والاعتداء على المؤسسات الأمريكية، كما عزل الكونجرس ترامب بتهمة التحريض على العنف، رغم أن دعوته لأنصاره لم تتعد مجرد حثهم على الاعتراض على نتائج الانتخابات. هذا المشهد الذى يضاف إلى سلسلة المشاهد العبثية، أظهرت مدى الازدواجية الأمريكية حينما يتعلق الأمر بداخلها. النموذج الديمقراطي الأمريكي كالأسد الجريح، لم يعد قادرا على توحيد الداخل، ولا دعم أجندة الخارج. وللحق أيضا، ليس فقط النموذج الديمقراطي الأمريكي هو من يعانى من اهتزاز وتآكل كبير، بل الديمقراطيات الغربية الأوروبية أيضا بسبب تنامى اليمين المتطرف والحركات الشعبوية. وربما مع الصعود الكبير للصين وروسيا في النظام الدولي سيمر العالم بفترة ردة كبيرة عن الديمقراطية.