14 سبتمبر 2025

تسجيل

الرّاء الّتي بين الإفتاء والافتراء

19 يناير 2019

قبل عشر سنوات، أعدّت مجلة « فورين بوليسى» الأميركية -المعنية بالشّؤون الخارجية- قائمةً -مالت- بأسماء عشر شيوخ، قالت إنهم يملكون قُدُرات سحرية، وإمكانات غير عادية علىٰ تشكيل آراء النّاس، اختيارات العباد وتوجّهاتهم بين أيديهم كالفطير من العجين بين يدي خبّاز مكين، يُشكّلها كيف يشاء، وهنا مربط الفرس، ومكمن الخوف والوجس، فالإدارة الأميركية تتوجّس منْ أنْ يصل ذاك التَّأثير -لا سمح ﷲ- إلىٰ درجة إقالة حكومة وإقامة أخرىٰ، وتهديد مصالح دول وتهديد وجود أخرىٰ، ولأجل ذٰلك تعمل الإدارة الأميركية علىٰ كسب وُدّهم، أو كسر مَدِّهِم، فإنْ لم تستطِع فتعمل علىٰ تحييدهم وذٰلك أضعف الإيمان، وجاء يومئذٍ علىٰ رأس قائمة العشرة المبشرَّين في المجلّة: المفتي العام للمملكة العربية السّعودية ورئيس هيئة كبار العلماء والبحوث العلمية والإفتاء، سماحة الشَّيخ عبدالعزيز ابنُ عبدالله آل الشّيخ! ثُمّ جاء ابن سلمان ليَحُلَّ هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر، وتحُلَّ بدلها هيئة التّرفيه، ويُحيل في ثلاث سنين دأباً أكبر هيئة دينية إلىٰ قسم التّصديقات علىٰ الأحكام السّلطانية. عشر سنوات لمْ تكُن كافية لكسب وُدٍّ أو كسر مدٍّ فقط، أو لتحييد واحتواء وحسب، فتلك أفعال ناقصة معتلّة، والفعل الصّحيح التّام هو الذي يتعدّىٰ كلّ حدود العقل والمنطق إلىٰ ما لا عينٌ رأت، ولا أذُن سَمِعَتْ، ولا خطر علىٰ قلب بَشَر، حتَّىٰ يصل إلىٰ حدٍّ تلتبس فيه علىٰ المُسلم فتاوىٰ هيئة كبار العلماء وتصريحات أشدّ حاخامات الصّهاينة تطرّفاً وعنصرية،عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، مثل فتوىٰ عدم جواز قتال المحتلّ الصّهيوني، وتحريم التّظاهرات منْ أجل الأقصىٰ، وفتوىٰ تجريم حماس بالإرهاب. وثلاث سنوات كانت كافية لتُصبح هيئة كبار العُلماء دُكّاناً رسمياً لتفصيل وحياكة الفتاوىٰ السّاترة لفساد أُولي النّعمة، والسّاكتة عنْ استبداد أولي الأمر، مع خدمة التّوصيل للمنازل، فتاوىٰ تُؤسّس للعبودية للحاكم، وتُحرِّم الخروج عليه، وإنْ جلد ظهرك، وسلخ جلدك، وأكل مالك، وكشف عورتك، وصادر حرّيتك، فهُم يرون الحُريّة عَوْرَةٌ، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ، لا يُغيّرون الفُتيا باقتضاء الحال والأمر، ويحوّرونها باقتضاء مزاج وليّ الأمر. ثلاث سنوات كانت كافية ليتحوّل أعضاء الهيئة المعنيّة، إلىٰ تُحف أثريّة تؤثّث استديوهات البرامج الدّينية، وأنْ يقبلوا بأنْ يصيروا تَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ داخل بلاطات الملوك ومجالس الأمراء في عموم المناسبات، خوفاً وطمعاً، في الوقت الّذي اعتكف فيه عُلماء ربّانيون داخل زنازين ابن سلمان غصباً، يؤمنون بالعُقبىٰ لمنْ كان حَظُّ مِنَ الْفُتْيَا الْكَفَافُ. عشر سنوات كانت أكثر منْ كافية لتصبح قرارات مجلس الشيوخ في أميركا أكثر صدقاً منْ فتاوىٰ شيوخ الهيئة، وأوفىٰ حقّاً، كقرار إدانة ابن سلمان بدم خاشقجي، الّذي يقابله إصرار الهيئة علىٰ براءته منه براءة الذّئب من دم ابن يعقوب، في الوقت الذي تعجز فيه عن الدّفاع ببرائتها منْ تُهم تشريع الظّلم وتمكين الفساد، ولو آثروا الصّمت لَحَفِظوا السّمت لو كانوا يعلمون. ليس المُفتي الأكبر ولا منْ في صنعته، أوّل منْ ضيّق في الدّين علىٰ سعته، ووسّع للظّلم في رقعته، بل سطّر لنا التّاريخ قصصاً منذ أفول نجم الخلافة السّاطع، باستشهاد الخليفة الرّابع، لعلماء باعوا علمهم مقابل عَرَضٍ من الحياة الدّنيا، واشتروا عذاب الآخرة بتسييس الفُتيا، فتبوؤا مقاعدهم في مكبّ التّاريخ، وذهبت مآثرهم في مهبّ الرّيح، ويوم القيامة أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ..