14 سبتمبر 2025
تسجيلاستقلال القضاء.. الطريق الأوحد للوصول للقرارات العادلة في المنازعات الإصلاح لا ينافي التجديد.. وهما معاً مطلوبان للنهضة مسألة العدالة وأجهزتها في صلب اهتمام الدولة انطلاقا من المعاني السامية للخطاب الأميري في افتتاح دور انعقاد مجلس الشورى، وفيما وجه إليه حول، "تطوير أنظمة العدالة بما يكفل ترسيخ استقلال القضاء "، تأتي هذه النظرات في واقع العمل القانوني ومستقبل النظم العدلية. لقد كانت العدالة واحدة من أقدم القضايا التي تناولها الفكر الإنساني اجتهادا في بيان مدلولها، وبياناً لأساليب تطبيقها، وتأملا في مدى إلحاحها بشأن العلاقات الاجتماعية، ثم وقوفاً على موقعها في بناء الدولة. إن العدالة في بعدها الفلسفي أعمق من النظم القانونية، وأسبق من حركة التقنين، وليس معنى ذلك أنها شيء آخر خلاف القانون، بل القانون- فيما يجب أن يكون عليه- هو التجسيد التدويني أو الوثائقي لتطبيقات العدالة في الحياة على العموم، ومن هنا بات لزاماً على المشتغل بالقانون أن يولي معنى العدل قدراً بليغاً من الاهتمام وهو يتصفح الوقائع التي تمر أمام ناظريه في تسلسل الأحداث الخاصة والعامة، وأن يمتحن في ذهنه نصوص التشريع، من حيث ملاءمتها لمواجهة تلك الوقائع، وأن يراقب ببصيرة محايدة قرارات القضاء في مجتمعه، هل التزمت جادة الحق والصواب أم تنكبت طريقه، فهذه كلها من صميم تحديات الواقع الاجتماعي في شقه القانوني، أو في جانبه العدلي، لا يملك المواطن سبيلا آخر غيره لتأكيد تفاعله مع قضايا وطنه، ومن ثم فلا مناص من أن تكون مسألة العدالة وأجهزتها في صلب اهتمام الدولة على النحو الذي أفصح عنه الخطاب الأميري، بما يمثله من خارطة طريق، ثم للهيئة القضائية التي هي في مقدمة المعنيين بخطط تطوير أنظمة العدالة. ولا أحد يماري في أن النظم القانونية شهدت عبر التاريخ تطوراً هائلا نقلها إلى مستويات رفيعة من الرقي في قواعدها الإجرائية والموضوعية على حد سواء، وأكسبها قدراً عالياً من الاحترام والرعاية في الأوساط الرسمية والاجتماعية، وإذا كان التطور سنة ماضية فإن من الإنصاف أن نسلم بأن ما نحن عليه اليوم، إن هي إلا درجة تعقبها درجات، ومرحلة في التطور تتلوها مراحل، مما يلزم معه- من حيث المبدأ- ألا نقف عند ما نحن عليه، بذريعة أنه هو الذي نعرفه وهو الذي استقر عليه العمل. فالحقيقة أن التطور بمعنى التجديد، ليس هو وحده الواجب فحسب، وإنما يتعين اعتبار إصلاح الخلل في الأداء القانوني واجباً أيضاً، فالإصلاح لا ينافي التجديد، وهما معاً مطلوبان للنهضة في سائر جوانبها. إن نظم العدالة في الدولة الحديثة هي مجموعة القوانين التي سنها المشرع لحماية الحقوق وصيانة السلم الاجتماعي، ولابد، ونحن بسبيل تفعيل تلك النظم، وترجمة القوانين إلى واقع معاش، من أن تتكامل أجهزة السلطة التنفيذية مع الهيئة القضائية بفروعها، وحينئذ ستبعث الحياة في مدونات التشريع، ويصبح خطابها حاضراً في سمع الأفراد، من أشخاص طبيعيين أو اعتباريين، وسمع الإدارة العامة بجميع وحداتها، التزاما وإلزاما استيعابا وتثقيفاً. إن العدالة لا يستحضرها الوجدان الإنساني، إلا إذا وقع انتهاك للحق، وضج المظلوم بالشكوى، ونشبت المنازعات بين الأخصام، فحينئذ لابد أن يتدخل النظام العدلي، إما في شقه الجنائي، أو في جانبه المدني، أو في ميدانه الإداري أو المهني أو التأديبي، هذا على صعيد الخصومات الداخلية، أما على الصعيد الخارجي فإن تفعيل العدالة الدولية إنما يكون عبر الوسائل والأدوات المتفق عليها أمام الجهات ذات الاختصاص القضائي الدولي. وإذا كان المقصود بالتوجيه السامي في الخطاب الأميري هو العدالة الوطنية في نطاق القانونين العام والخاص، فإن تنفيذ ذلك التوجيه يكون بعرض تلك النظم على لجان متخصصة من ذوي العلم والخبرة لمراجعتها على ضوء المقاصد المستهدفة في كفالة ترسيخ استقلال القضاء، وفي المعنى العام لهذا المبدأ الدستوري، فإن استقلال القضاء يعني أن القاضي لا يخضع إلا لحكم القانون الذي يهتدي إليه بضمير حر وفكر محايد وفهم سديد، وهذا الاستقلال هو الطريق الأوحد للوصول إلى القرارات العادلة في المنازعات المعروضة. إن استقلال القضاء لا يستمد من مواد التشريع ونصوص الدستور والقواعد العامة، على حتميتها وضرورة وجودها، وإنما يستمد من الضمير المنصف، والفقه الصحيح، ولن يكون الضمير منصفا إلا إذا كان سويا نزيهاً، يكره التحيز ويأبى الظلم، ولن يكون الفقه صحيحاً، حتى تراعى فيه ضوابط الاستدلال، وتتحقق معه الرقابة الدقيقة والجادة على أقضية المحاكم والنيابات وقراراتهما. لقد كان هذا المبدأ أحد أسباب تقرير نظرية الفصل بين السلطات، وهي نظرية على ذيوعها في دساتير الدول واعتمادها محوراً رئيسياً في الدراسات المقارنة، إلا أنها لازالت في مجتمعات العالم الثالث غير مكتملة التطبيق، بل ولازال العالم الأول يشكو بين حين وآخر من بعض الممارسات التي قد تمس الاحترام الواجب لها. صحيح أن الدستور، وليس القانون، هو الذي أنشأ تلك السلطات، وحفظ كيانها، ومنحها الولاية على الأعمال التي تباشرها، ولكن تبقى الأحكام الدستورية، سواء في القواعد أو النصوص، محلا للتساؤل عن القدرة في توقيع الجزاء عند مخالفتها، وإذا تطرق الشك في هذا المنحى من تلك الأحكام، فهذا يعني التردد في صفة الإلزام الواجبة لها، وهذا ما دعا البعض إلى التشكيك في الصفة القانونية الكاملة لهذا الفرع من فروع القانون ولا مراء في أن نفي ذلك المعنى وتقرير إلزامية النص الدستوري يلقي على عاتق السلطة القضائية عبئاً ضخما في حماية القواعد الدستورية عند مخالفتها، سواء من خلال حق القضاء في تجميد التشريعات المخالفة للدستور، أو من خلال حق القضاء في الرقابة على أعمال الإدارة العامة. إن تطوير نظم العدالة وإسهامها في ترسيخ سلطة القضاء من الموضوعات الهامة على صعيد الدراسات القانونية، وإذا كان تناولها الآن عاماً، يقف عند الأسس والمبادئ الرئيسية، فإن حقل الدراسة البحثية كفيل ببيان تفصيلاتها وعرض الصور الممهدة لأساليب التغيير وحدود معالمه في غد يكون أكثر إشراقاً.