11 سبتمبر 2025

تسجيل

جزيرة الملوك

18 أكتوبر 2023

يُحكى أن مدينة كانت محاطة بسور منيع، وكان ناموس أهل تلك المدينة أن لا يحكمهم ملك أكثر من عام، فإذا أتم الملك العام في الحكم ألبسوه ثوباً أبيض وعطروه وحملوه على الأكتاف وطافوا به البلد، ثم أرسلوه إلى جزيرة مهجورة ليمضي بقية عمره هناك، أنهى أحد الملوك فترة حكمه وكعادتهم ألبسوه ثوبا أبيض وعطروه، وحملوه على الأكتاف، وأخذوا يطوفون به في أنحاء المدينة، قائلين له وداعاً، وكانت هذه اللحظة من أصعب لحظات الحزن والألم على الملك وجميع من كان قبله ثم بعد ذلك وضعوه في السفينة، التي قامت بنقله إلى الجزيرة البعيدة حيث يكمل فيها بقية عمره، ورجعت السفينة إلى المدينة وفي طريق العودة اكتشفوا إحدى السفن، التي غرقت منذ وقت قريب ورأوا شاباً متعلقاً بقطعة عائمة من الخشب، فأنقذوه وأخذوه إلى مدينتهم وطلبوا منه أن يكون ملكاً عليهم لمدة سنة واحدة، لكنه رفض في البداية ثم وافق بعد ذلك، وأخبروه بالقانون الذي يسود في المدينة وأنه بعد مرور سنة سوف يُحمل إلى تلك الجزيرة، بعد ثلاثة أيام من تولي الشاب للعرش، طلب أن يزور الجزيرة فرآها وقد خطتها الغابات الكثيفة. ذكاء الملك الجديد وسمع فيها أصوات الحيوانات الشريرة وهي تنطلق في أنحاء الجزيرة ووجد جثث الملوك السابقين ملقاة على الأرض، عندئذ عاد الملك إلى مدينته، وجمع ۱۰۰ عامل قوي وأخذهم إلى الجزيرة، وأمرهم بتنظيف الغابة وبناء قصر ومرسى للسفن، وكان يزور الجزيرة مرة في الشهر، ليطمئن على سير العمل، وكان العمل يتقدم بخطوات سريعة، وبمرور الوقت تحولت الجزيرة إلى مكان جميل، وقد كان الملك ذكياً، فكان يلبس الملابس البسيطة وينفق القليل على حياته في المدينة، في مقابل أنه كان يكرس أمواله التي وُهبت له في إعمار هذه الجزيرة، واكتملت السنة وجاء دور الملك لينتقل إلى الجزيرة، ألبسه الناس الثوب الأبيض المعتاد وعطروه، وحملوه على الأكتاف ككل الذين سبقوه، ولكن اللافت أن الملك لم يكن حزيناً كبقية الملوك الذين سبقوه، فقد كان فطناً وعمد إلى إصلاح الجزيرة الذي سيقضي فيها بقية عمره، فكان فرحاً أنه استراح من مشاكل المدينة، وهموم الناس، فبدا كمن سيذهب في رحلة ترفيهية. الدروس المستفادة من القصة الدرس الأول والأخير: الحياة هي تلك المدينة، وكل واحد فينا هو ملك مؤقت، يدير حياته بالشكل الذي يحلو له ويوماً ما سیلبس الثوب الأبيض الذي لبسه كل المغادرين قبله، وسیعطر ويحمل على الأكتاف إلى تلك الجزيرة، فمن عمَّر المدينة، وأهمل الجزيرة فسيرتحل إلى خرابة، وسيكون حزيناً يوم رحيله، لأنه انتقل من نعیم مؤقت إلى شقاء دائم، ومن كان ذكياً واستغل فترة حكمه لتحويل الجزيرة المهجورة إلى جنة، فيكون سعيدا يوم يُغادر، سيكون أُعتق من الهموم والمسؤوليات، والأمراض والأوجاع، وسيبدو كمن هو ذاهب في رحلة استجمام ليس لها آخر، كل واحد فينا اليوم ملك مؤقت، وكلنا سنذهب إليها، من زرع ورداً سيذهب ليقطفه، ومن زرع شوكاً سيذهب ليجنيه. الحياة الدنيا لهو ولعب قال الله تعالى في محكم تنزيله الآية (64): «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، يخاطب الله تعالى الذين يعلمون من البشر بأن الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، أي شيئا يلهى به ويلعب، أي ليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو زائل كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات، قال بعضهم: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها... وأنشد البعض: تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور.... وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور.... فمن ظن أن الدهر باق سرور فذاك محال لا يدوم سرور... عفا الله عمن صير الهم واحدا وأيقن أن الدائرات تدور.... كسرة أخيرة لابد أن تكون لدينا قناعة بأن أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش والقوة على الطاعات وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة وهو الذي يبقى كما قال: (ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) أي ما ابتغي به ثوابه ورضاه وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها.