27 سبتمبر 2025

تسجيل

على وهنٍ كأن الحزن تحتي (3-3)

18 سبتمبر 2012

"على أن قرب الدار ليس بنافع "، نعم هذا ما يقرّه السوريّ المغترب، لا لأن من نهواها ليست بذات عهد، بل لأنها أغلقت علينا بوابة الاحتمالات، وتركتنا أمام ترف الهجرة المستدامة، نحتال على الحزن والقلق وأخبار الموتى القادمة من هناك، وهناك تحضن قبة السماء بقوس يديك منتظراً دامعاً قانتاً منتظراً متوجّساً...تغرف من ذاكرة هرمة كلاماً يخرم القلب، لعلّك في غمرتها تنسى مآسي القصف والتفجيرات والنازحين إلى الجهات الأربع. ستقول هنيئاً لمن مات على سرير المرض يقضي الساعات الأخيرة بين الأمصال وأنابيب الأوكسجين، ومخاوف الورثة، ستبكيه النوادب، ويكبّر عليه أربعاً، ويعزّي فيه المعزّون، ثم بعد حين.. ستقول هنيئاً لمن قتل في الحرب برصاصة في الرأس، سيلفّ بالعلم، وتراه أمّه قبل أن يوارى الثرى، وتزغرد فوقه النساء، ويسكن بيته الجديد وحده، وقد كتب على الشاهدة: الشهيد فلان استشهد يوم كذا بتاريخ كذا، ثم ستقول هنيئاً لمن قتل في مجزرة.. على الأقل ستتعرف إليه في قبر جماعي، سيوثّق موته في صورة أو سجلّ. ستزوره أمّه مع أمّهات ثاكلات يتبادلن الوجع.. شاهقاتٍ: " إنّ المصائب يجمعن المصابينا "، سيتجاور الشهداء في أخدود عامرٍ بالدمع، ربما ستصطف عليه شجيرات السرو أبعد سنوات. سيقولون سرو الشهداء أو صفصافهم، ربما هجعت هناك الطيور وعادت بأخبارهم الطيبة، وستقول هنيئاً قتل وعاد جزء منه إليهم، رأسه، جسده المشوّه أو حتى " سلاميّة من أصابعه " على حدّ قول الشاعر السوري محمد علاء الدين عبدالمولى. ألمّ أقواسي مثنى مثنى، لأعيد الكلمات إلى حظيرة النصّ، أحاول أن أبكي..قليلاً. كان محمود السلوم معلّماً لمادة الرياضيات في قريتي، وله فضل على أولادي وأولاد القرية، على أبواب الشهادة الإعدادية تعهّدهم سنة بعد سنة.. وساعدهم في التحصيل العلميّ العصيّ على أبناء القرى، كثير ممّن درس على يديه وصل إلى الجامعة. الأستاذ محمود فقد حياته في خضم الأزمة إثر رصاصة غادرة، تاركاً أسرة لم تزل بعد في حاجة أن تتكئ على معيلها، وعلى سبورة الصف سيكتب الأحياء أسماء كثيرٍ من الشهداء الذين قضوا، طلاباً تحت القصف، ومعلمين بنار القنّاصة، فيما بعد...كم يلزمنا من الوقت لينسخ طلابنا أسماء ثلاثين ألف شهيد، كم يلزمنا من الدفاتر لنرسم وجوههم بأفواه مبتسمة، فالموت صار سريعاً في بلادي.. بسرعة عشرة شهداء في الساعة، ولأن معلم الرياضيات قد رحل ؛ فمن يستطيع أن يحسب مساحة دائرة قطرها خمسون شهيداً، كما سألنا الشاعر محمد المطرود. على أنّ قرب الدار خيرٌ من نزوحٍ إلى خيمة في الصحراء، فما أوسع خيمة الله! وما أضيق خيمة اللاجئ حين تكون مجرّد رقم في سجلات الإعاشة، ومجرّد كومبارس في عراضة ومجرد لون في الموشور السوري المنكسر على مِلَل الشرق ونِحَله، رغم كلّ ما انهتف به بداية الثورة..واحد..واحد..واحد. *** ووجدتني أعيد المرآة إلى الجدار، وأعبر مثل كلّ العابرين إلى القادم الحلم / الكارثة، رافعاً أغنيتي بطاقة صفراء في لعبة مفتوحة على الوقت والاحتمالات، تاركاً حصان الريح يعبّ قلق الجهات، موصياً: " كلّما كثرت الدوائر المتقاطعة قلت بينها العناصر المشتركة... ولكنها في المقابل تشكّل وردة رائعة...فيا أيها السوري لا تبحث عن الفرق بينك وبين أخيك.. ابحث عن قلبك..ليكن قلبك هو البوصلة".