16 سبتمبر 2025

تسجيل

بيت الرسام

18 يوليو 2016

هبط الرسام عن حماره، وأطالعه بشغف، أحاول أن أنتزع ملمحا يخص ليز الجميلة، من وجهه. كان أنفه كبيرا بعض الشيء.. عيناه واسعتان وفيهما بقايا رمد، وجلده أملس، وليس ثمة شارب أو لحية على وجهه. وحين وقف بمحاذاتي، كان طويلا، أطول مني بسنتمترات عدة. كنا أمام بيته بالتحديد، ودخلنا على الفور، وكان البيت بالضبط، مطابقا لبيوت تلك الفترة، كلها، تقريبا.. ثمة حوش كبير ممتلئ بأسرة الخشب المنسوجة بالحبال، وفي العادة بلا ألحفة ولا وسائد. ثلاثة أزيار من الفخار، على قاعدة من الطين، مغطاة بأغطية من السعف، وأعلى غطاء إحداها، إناء من الفخار. ثمة مبنى طيني صغير في وسط الحوش، وزريبة ملحقة بالبيت، حيث الحمير، وربما بعض الضأن والماعز. لم يكن بيت رسام قط، والمذهل في الأمر، أن الفترة نفسها لم تكن فترة استنارة كبيرة، ليخرج فيها رسام أو شاعر، ولتأتي أسماء إفرنجية لفنانين، ولوحات، يمجدها البعض، ويلتقط منها جعفر القديم اسما لسلالته كلها.جلست على أحد تلك الأسرة، أتشمم اللحظة، باحثا عن رونق ليز. وكنت نسيت أن أحضر لوحة الأسنان الضاحكة، أو أسنان الملكة كما سميت، لكن لا يهم، وإن سار مخططي جيدا، فيمكنني إحضارها في أي وقت آخر. كان الرسام العجوز قد جلس قبالتي على سرير آخر، كان صامتا، ويبدو أنه ينتظر كلمة مني.. مؤكد كان يعرف بزيارتي، وربما كان على ظهر حماره منذ الصباح الباكر، يغربل حيي دومة من طرفه العامر، إلى وسطه الضاج، إلى طرفه الآخر المهجور، بحثا عن غريب، يسأل عن بيته..لكن أين ليز؟تلك الأيام، كان صوت المرأة من الخفوت بحيث لا يمكن أن يسمع في أي محفل. وجهها لا بد من إخفائه حتى لا يفتن الرجال، ولا أعني تغطية الوجه، وإنما الإخفاء المعنوي، أي أن تمر المرأة بأقل قدر من لفت النظر، ولولا أن جعفر حماد كان مثقفا وفنانا نشطا، برغم ضعف موهبته، لما كان بالإمكان رؤية ليز، أو أي واحدة من بناته. لكن هنا، في حي شعبي مثل دومة، سيكون الرسام صارما جدا، ولن تخرج ليز من ذلك الصرح الطيني المغروس في وسط الحوش.. أعرف ذلك. وقبل أن أبعد خواطري عن ذهني، وأعود لأواجه مضيفي بما جئت من أجله، امتلأ البيت برجال كثيرين، نبعوا فجأة ولا أعرف من أين. كانوا جيشا من الجلابيب والعمائم، غطوا أسرة الخشب المبعثرة كلها، وكانوا يمدون لي أعينهم، وأيديهم تباعا قبل أن يجلسوا.عثرت على بيت جعفر إذن.. قال أحدهمأخبرتني أمي أنك تبحث عن بيت جعفرقال آخر..أبي شاهدك تبحث عن بيت جعفرأختي قالتابن أخي لمحكجدتي،قال آخر، وثالث ورابع. وبدا أن دخولي الحي، وسؤالي بالرغم من أن أحدا لم يدلني، كان برنامج ذلك اليوم، ولو جلست أكثر، لربما ربطوني إلى جزع شجرة جاف من تلك الجذوع المتآكلة في الحي، وقسموني إلى لقم صغيرة، والتهموني.. لقد عشت في حي شعبي مشابه، ولا أزال أعيش فيه، وشاهدت الفضول لدرجة المرض عند سكانه، وكانت أمي نفسها، محشورة في أي شيء غير طبيعي يحدث، لكن مثل هذا الحشد لم يصادفني قط. وقفت، قلت لمضيفي هامسا: إنها موناليزا البلهاء، ليز، على بركة الله.قال هامسا وثمة آذان عدة، تمطت لتستمع ولم تلتقط شيئا: على بركة الله.