10 سبتمبر 2025
تسجيلمن ارتقاء المرء في خُلقه أن يُعامل الناس بالمثل، بلا زيادة ولا نقصان، فتود من يودك، وتُكرم من يكرمك، وتحفظ حقك في الرد على من يسيء الأدب معك، فتردّ عليه بما هو له أهل. وليس ذلك في رأيي من الانحدار، أو الظلم المقدوح، فبعض الأنام لا يستحق سوى رد إساءته بالمثل، ليعلم احترام الحدّ، وإكرام من يفرض وقاره، وليدرك أن احترام الآخرين ليس خياراً متاحاً، بل هو واجب مفروض. وليس المعنى من ذلك أن يتهاون المرء عن طلب الإحسان والتسامي بأخلاقه، يتخيّر أرقى المسالك، فيغض الطرف حيناً، ويعفو ويصلح وأجره على الله حيناً آخر، أو أن يتغافل لحفظ الود في موضع آخر، أو أن يرّد الإكرام مثله أضعافاً، أو يدفع بالتي هي أحسن في أوقاتٍ أخرى، أو يكظم غيظه في بعض المواقف، ولكن المقصد أن يكون ذلك في حال الإرادة والعزم، والقدرة على الفعل، والرغبة الحقّة في التسامي إحساناً من عنده، برغبةٍ أصيلة ونيةٍ واضحة بلا ضعفٍ أو خور أو تساهل. أما في غير ذلك، فإن إكرام اللئيم يجعله يتمرّد، وعدم الرد على المتطاول ظلم للنفس قبل أي أحد، ومعونة له في الاستمرار على الاستقواء عليه وعلى غيره، والتسامح مع المتمادي إعانة له على الاعتداء على سواه. كما قيل: ووضعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعلا مُضِرٌّ كوضعِ السيف في موضع الندى لذا، فإن من الحكمة أن يتخيّر المرء مواضع الإحسان، وأن يُدرك أنها صادرة من نقاءٍ خالص، وقدرة تامة على الرد، وتقدير كامل للظرف والموقف، وأن يعي الوقت والمكان والسياق الأنسب لهذه الاختيارات التي قد يكون من الظلم البيّن منحها كل أحد ! *لحظة إدراك: ليس من فضائل الأخلاق التهاون فيما لا يجب التفريط فيه، فالحكمة هي وضع للأمر في موضعه وسياقه الأليق، ولا يكون ذلك بدوام اتخاذ السبل المتخاذلة ظناً أنها من مكارم الأخلاق، ومن فضائل الأطباع، ومن سوابغ الكرم، فالأخذ على يد الظالم محمدة، والإحسان إلى بقيّة الأنام برد ظلمه وجبروته عن أن يصلهم أذاه من شيم الكرام.