14 ديسمبر 2025
تسجيلالمفاجأة عنصر من عناصر المواجهات عسكرية أو دبلوماسية، والمفاجأة واحدة من صفات الشعب المصري، فكان قول للدكتور أحمد أنيس أستاذ التاريخ في عام 1971 "إن الشعب المصري حيّر علماء الاجتماع في تفسير حركته، فهو لا يتحرك عندما يتوقع منه الجميع الثورة، ويثور عندما لا يتوقع أحد منه الحركة"، وكانت وقائع يناير 2011 شاهدا على مخزون الإبداع لدى الشعب المصري وفي إطار من السلمية، أي أن علاقته بالأديان وعبادة الخالق منذ فجر التاريخ، وضعت حرمة الدم موضع القداسة، ووضعت الصبر عمقا للمقاومة، كما وضعت الحفاظ على طهارة مياه النيل موضعا للحساب بعد الموت، وكان الإبداع تطور مظاهرات الاعتراض على ممارسات الداخلية ضد الشعب إلى إزالة رأس النظام، ومن عشرات يحتشدون إلى ملايين بلغوا العشرين مليونا وطوال 18 يوما ستخلد في تاريخ حركات الشعوب. ليس هناك من يحدد للحرب أو الثورة والانقلاب يوما وساعة، ولكن ما تمر به مصر فرض عليها أن تتجاوز القواعد الأساسية للحركة بكون المفاجأة عنصرا من عناصر القوة، وللمرة الثانية تبدأ الحركة عبر دعوة مجموعة من الشباب إلى "تمرد" على الحاكم، وبتوقيع استمارة مضمونها "أعلن أنا الموقع أدناه بكامل إرادتي. وبصفتي عضوا في الجمعية العمومية للشعب المصري سحب الثقة من رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي عيسى العياط. وأدعو لانتخابات رئاسية مبكرة، وأتعهد بالتمسك بأهداف الثورة والعمل على تحقيقها ونشر حملة تمرد بين صفوف الجماهير، حتى نستطيع معا تحقيق مجتمع الكرامة والعدل والحرية ". وتطالب الدعوة كل مواطن يوقع أن يكتب رقمه القومي، وبمرور قرابة الشهر وحتى 30 يونيو يتوقع المراقبون والإحصاءات وصول أعداد الموقعين إلى 15 مليون مواطن، هنا تكمن المفاجأة، فالشعب الذي اخترع الصبر، يعلن نفاده، ويكشف عن موقفه، وتوقيت خروجه لفرض مطالبه، دلالة يقين أن قناعته بالتمرد بلغت اليقين.. الأحداث في مصر تخرج عما يمكن للعقل أن يقبل به، وتلقي بسؤال جوهري: هل هذه مصر التي نحيا فيها ونعلمها وعشناها قلعة للعروبة ورائدة التحرر الإفريقي والعالمي؟، هل هذه مصر التي يئن فيها الأزهر تحت وطأة الهجوم الإخواني عليه؟، هل هذه مصر قلب الإمبراطورية العربية والإفريقية والتي يصل تعداد من يتأثرون بحركتها المباشرة ما يتجاوز ملياري نسمة؟، هل هذه مصر التي قالت جولدا مائير عندما بلغها نبأ وفاة عبد الناصر "ما هذه النكتة السخيفة"؟ بينما اليوم تشيد إسرائيل بحكمة رئيسها!، هل هذه مصر التي صارت بيئة خصبة للإرهاب تحت راية الدين وحاضنة له؟. إن ما يحدث في مصر الآن يستفز حجر الأرض أن يثور، فالألسن تلوك تعبيرات الديمقراطية والشرعية والإيمان والكفر والحرية والاستبداد، دون أن يكون الفعل دالا على استيعاب المضمون، وتنعقد موالد بأوهام اليقظة على أنها لقاءات سياسية تناقش أمن مصر القومي، بعيدا عن المسؤولين المباشرين عنه. إن البلاء الذي أصاب مصر في الإدارة الحالية، لا يمكن أن يكون من صنع حضارة، ولا ابنا شرعيا لتاريخ مصر، إنه هجمة تتارية بلا حضارة تحول اليقين إلى شك، والحضارة القائمة على عقيدة التوحيد إلى كفر، وتمنح نفسها حق الولاية على الدين والبشر والعلم وحتى تحديد مصادر الخطر، وكأنها هجمة من العصر الحجري أصابت القرن الواحد والعشرين. ناقشتني شهرزاد، وهي شابة جزائرية، في رسائل متتالية عن خشيتها من "الدم"، واستطردت "لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير وكيف لا ومصر القاطرة، وأنا لا أعلم ما يشاع ولكنه ربما الخوف لأني أعلم معنى أن يصل ما يحدث للعرب لغاية مصر، وأعتقد هو المطلوب في ظل المكائد الدائرة حولها". كان لمتابعاتها ورسائلها وقع البعث للحياة، فالشباب العربي يدرك معنى العروبة رغم أنه لم يعش سنوات الصعود القومي، ولكنه العلم والمعاصرة لحقائق الواقع العربي وطبيعة الصراع، والشباب العربي وقع في أخدود الدين والكفر، ويملك بالفطرة السليمة تمييز الخبيث من الطيب، ووقع الشباب في اختيار يبدو شاذا ساقته إليه أحداث سوريا، فلم يكد يغض الطرف عن أحداث ليبيا، حتى اتضح أن التكرار يجري في سوريا، وبات خياره مؤلما، أهي ثورة ضد استبداد نظام حكم، أم أنها تكرار للعراق وليبيا وحتى مصر؟، هل الأمة العربية بكل مقوماتها المكتملة صارت ماضيا؟ وأن البديل هو الإرهاب الديني؟، وهل ما يجري في سوريا والذي انقسم العرب فيه إلى فريق واحد ومعه جامعة الدول العربية وأمريكا وإسرائيل وتركيا على حق، أم أن طبيعة التكوين ومشتملاته تبعث على الشك؟، ما يراه الشباب يزرع الحيرة في الاختيار، فبينما كان الأزهر في منتصف القرن العشرين يرفع راية إلغاء الانقسام المذهبي ويقوده الشيخ محمود شلتوت رحمه الله، نجد الأزهر في مصر محل هجوم ممن يدعون العلم، ويكفرون من عداهم، وهؤلاء الأدعياء ومعهم الأزهر أيضاً يزيدون الانقسام المذهبي، بتقسيم العالم إلى سني وشيعي، ثم اتخاذ المواقف السياسية في الحسابات القومية على الأساس المذهبي، وكأنها استجابة لمخططات أمريكا خلال السنوات العشر الأخيرة لإعادة توجيه الصراع فوق الأرض العربية، من صراع مصالح إلى حروب مذهبية، وفي المواجهات المذهبية، تصبح أمريكا وإسرائيل هي الكاسب الأعظم، وكأن البيت الأبيض وأجهزته وتل أبيب وعدوانياتها على "السنة" في فلسطين العربية، صارا أنصار السنة من المسلمين، ويسأل الشباب تفسيرا، وتحتويه ظلمات الطنين بلا مضمون. كان الاتصال مع أرض المليون ونصف المليون شهيد في حرب التحرير، جسرا يعيد الربط بين الأقطار العربية، ومضمون القومية العربية، كما كانت وقائع سد النهضة وردود الفعل الخارجة عن أي توصيف صحيح للدبلوماسية وإدارة الأزمات، من الإدارة المصرية جرس إنذار عما يحيق بالعمق الإفريقي للأمة من أخطار وسوء إدارة، وكان خبر القبض على عناصر تتجسس في مصر لصالح إسرائيل معامل إفاقة آخر لحقيقة من العدو. مصر كما هي القاطرة (حسب ما تراها شهرزاد في يقينها)، فهي أيضاً الجائزة الكبرى لأعداء الأمة العربية، وأن تتحول مصر إلى حاضنة للإرهاب هو مقصد أمريكي وإسرائيلي لتدخل في دائرة الدول المستهدفة لمواجهة الإرهاب. قيمة مصر كقاطرة، ووقودها، كان في بعدها عن التلوث العقلي والديني والانقسام الطائفي والعرقي وبعدها عن احتمالات الاقتتال الداخلي مما جسد ظاهرة وحدة الأمة، وفتح نقاء العقل إمكانية لاكتشاف اللحظة المواتية في آفاق الإمبراطورية العربية الإفريقية الممتدة من إيران إلى الأطلسي ومن تركيا إلى منابع النيل ونيجيريا بل تشمل كل إفريقيا. مصر تخوض مواجهة عالمية، ووقودها شعبها، بينما تنشغل باقي مؤسسات الدولة بالدفاع عن وجودها ذاته في مواجهة هجمة تفكيك الدولة، ودون عمقها العربي والإفريقي، بل جرت إعادة توجيه حركتها إلى مواجهات عربية وطائفية ومذهبية وإفريقية، وإذا كنا لا نقبل أن يتحول ماء النيل إلى نهر من الدم، فإن العقيدة لدى الشعب المصري ألا يستحل الدم ليصير ماء. ما طبيعة ما سيجري يوم 30 يونيو في الداخل؟ سؤال تحمل أيام يونيو كلها إجابة عليه، غير منتظرة هذا الخروج الشعبي. الرئيس ينشغل بحشد أنصار له، حتى إن موقفه الأخير من سحب السفير المصري من دمشق وطرد السفير السوري من مصر، يجرى تفسيره بأنه تقديم أوراق تجديد اعتماده للإدارة الأمريكية، وفي ذات الوقت محاولة لحشد باقي التنظيمات الدينية من حوله، حتى إن شيخا منهم وقف داعيا ضد الكفرة الذين سيتحركون يوم 30 يونيو، وخرج أكثر من تصريح مطالبا بالمواجهات الحاسمة والرادعة لمن يمس شرعية الرئيس، وكأن شرعية الرئيس أكبر من الشعب، وكأنهم يستكثرون على أي أحد أن يقول "الشعب يريد" بينما هم يخصون أنفسهم بأنهم أصحاب دين الله والقائمين عليه. الشرطة في حالة انقسام بين، خاصة بعد المعاناة التي عاشها أفرادها جراء التراخي في الموقف من الإرهاب في سيناء، والإفراج المتتالي عن رؤوس الإرهاب في مصر. الجيش يعلن أنه يحمي الشعب، وكأن الشعب والأمن القومي صنفان مختلفان في المسؤولية والتفسير، فأي شعب يحمي بينما الأرض والماء والعلاقات الدولية تتداعى دون رادع. والإخوان بدءوا المواجهة، في زي جديد مكون من خوذات على الرأس، وحتى اللحظة "هراوات" بالأيدي، وشهد يوم الأحد مواجهات عنيفة في الفيوم (أصيب أكثر من خمسين مواطنا)، وفي الدقهلية، وهاجم محامي الإخوان وعناصرهم الحضور في قاعة محاكمات الهروب من سجن وادي النطرون بعد رفض طلبهم برد رئيس المحكمة، وتتصاعد الأمور مع تعيينات جديدة لمحافظين من الإخوان كل مؤهلاتهم أنهم أعضاء بالإخوان. وتشهد وزارة الثقافة موقفا بالعصيان من كافة الأدباء والفنانين ورجال الثقافة بلغ حد احتلال مبنى الوزارة ومنع الوزير من الوصول إلى مكتبه، في مواجهة قرارات يرونها تهدم البناء الثقافي والإبداعي في مصر، وواجه الإخوان هذا العصيان والاعتصام بمحاولة التعرض له بالقوة، ولم تنجح المحاولة. وتدعو الجماعات والتنظيمات الدينية إلى الاحتشاد يومي 21 و28 يونيو والاعتصام لمواجهة وقائع 30 يونيو المحتملة. هذه العناصر المكونة لمشهد القوة والسلطة ومنهج التعامل، يواجهها حتى الآن تحرك "مطلبي"، وليس تحرك "بالعصيان" لتكون المطالب قرارات. ويبقى السؤال، ماذا في جعبة الوعي الجمعي المصري من إبداع حال تحركه؟، وهل سيكون الصدام بين حركة الشعب وبين التنظيمات الدينية باب التدخل الخارجي، أم أنه سيكون باب التحرك من الجيش المصري؟، أسئلة لا أحد يستطيع بيان الإجابة عليها، فهي سلاح المفاجآت الذي تذخر به حركة الشعب المصري.