11 سبتمبر 2025

تسجيل

لا عُذرَ لنا يا فلسطينُ

18 مايو 2021

عيوننا وقلوبنا، يا قدس، لم تعد ترحل إليكِ كلَّ يوم، لأنها ساكنةٌ فيكِ، ممتزجةٌ بترابكِ، تحتضنُ دماء الشهداء والمصابين ودموع اليتامى والأيامى والثكالى، تبكيهم معكِ، وتلوذ بجدرانِ أقصاكِ المباركِ علَّها تجدُ فيها نفحاتٍ من النور الإلهي الذي يَحِفُّ بها، وتسمعُ أصداء تكبيرات الأنبياء والرُّسلِ، عليهم السلام، وترى أطياف المعجزةِ الكبرى في إسراء المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وعُرُوجه إلى السماوات العُلا. لم يُشَرْ إلى فلسطين والمسجد الأقصى في القرآن الكريم إلا متبوعين بالمُبارَكة الإلهية لهما، ولم يُذكَرِ الأقصى في الأحاديث النبوية إلا مرتبطاً بالبشارات أو محفوفاً بالإجلال؛ ولم ترتبط الأحداث التاريخية الكبرى بموضعٍ كما ارتبطت بالقدس، كما في الحروب الصليبية قديماً، والاحتلال الصهيوني في عصرنا. ظنَّ كثيرون أن الأرضَ المبارَكة قد مُحيتْ من التاريخ بصفقة القرن وتوابعها السياسية، لكن أهلها الكرام أعادوا للأمة كلها كرامتها وعِزَّتها عندما جعلوا أرواحهم صفحاتٍ يكتبون فيها بدمائهم عباراتِ الإيمان والإرادة غير عابئين بِمَنْ خذلَهم، ولا يستنصرون إلا الله في جهادهم الشرعي والمشروع، ولا يطلبون من الأمة إلا دعمهم بالكلمة التي أصبحت، للأسف، أعظم الجهاد في زماننا، وأصبح قائلوها يحسبون حساباً عظيماً لتَبعاتها عليهم. لم يبدأ الأمر بحي الشيخ جرَّاح في القدس، وإنما كانت له جذورٌ تعود لسنة 1917م، عندما أعطى مَن لا يملك وعداً لمَنْ لا يستحقُّ بتمكينه من أرضٍ يسكنها مالكوها الأصليون والأصيلون منذ قرون طوال، وصولاً إلى نكبتنا في سنة 1948م، عندما أُنشئ الكيان الصهيوني على جزء من فلسطين، مروراً بنكسة 1967م التي مَكَّنَتِ الكيان من الاستيلاء عليها كلها مع أراضٍ شاسعةٍ من مصر وسوريا والأردن، فصار الأمل الأكبر هو الرجوع إلى ما قبل النكسة. ولكن ذلك كله هو تاريخ أنطمةٍ عربيةٍ، أما الشعوب، فقد حالَ الاستبداد والديكتاتورية دون سماع صوتها، فكانت كامب ديڤيد وما تلاها من اعترافات بالكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني، وعقيدتنا الإسلامية، وتاريخنا، وحاضرنا، ومستقبلنا. لكن الأرض المباركة لم تَسْتَكِنْ؛ فروحها تسري في أبنائها الكرام البَرَرَةِ أبداً. منذ أسابيع، والفلسطينيون يواجهون وحدهم أبشع عدوان وحشي عليهم، بل إنهم يواجهون تياراً صغيراً ذا صوت عالٍ في أمتنا ينصر الصهاينة عليهم، وهم يستمسكون بالعروة الوثقى، ويقدمون مواكب الشهداء مصحوبةً بالتكبير والتهليل. إلا أن هذا المشهد يخفي مشهداً يُصدِّعُ قلوبنا حزناً، ويُذيبها كمداً؛ فهناك ركامُ دمارٍ هائلٍ تبدو تحته ملامح وجوه الضحايا الأحياء الذين ينتظرون موقفاً عربياً صغيراً لمساندتهم وإغاثتهم ونُصرتهم يتخطى بيانات الشجب والاستنكار التي تساوي بين الجلاد وبينهم. عندما تهون فلسطين ويهون أقصاها علينا، فهذا يعني أن عقيدتنا قد هانت علينا، وأننا أحياءٌ نعيش فقط ولكننا لا نحيا، ولا نؤثِّر، ولا يكون لنا دور في مسيرة الإنسانية. وقد أدركت الشعوب هذه الحقيقة، فالتفَّتْ حول فلسطين والفلسطينيين الذين بعثوا الروح فيها، وأعادوا لها نَبْض الكرامة والإرادة عندما هَبَّتْ غزة الحبيبة لردع العدوان بما تملكه من سلاح بسيط إذا ما قِيس بسلاح الصهاينة، إلا أنه أعظم منه لأنه سلاح مبارَكٌ أوجع الصهاينة، ونَبَّهَ الأمة إلى ضعفهم وإمكانية هزيمتهم. ستكون المعركة الحالية انتصاراً عظيماً مهما كانت نتائجها، لأن الجميع فهموا معادلة الصراع، ولم تعد المُسكِّنات السياسية تنفع في تهدئة النفوس التي رأت عمر بن الخطاب شامخاً بقامته في القدس، وصلاح الدين يقود الجموع، وراية الحق خفَّاقةً في الأرض المبارَكة، حين شمخت قامة الشعب الفلسطيني البطل، وتقزَّمَ أمامها الصهاينة في مشهد لن يُمحى من ذاكرة الأمة والعالم أبداً. نحن، أبناء الأمة وبناتها، علينا واجبٌ مقدَّسٌ هو نصرةِ أشقائنا بالكلمة، والذَّود عنهم بما نستطيع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، لنُشْعِرَهُم أننا معهم، وأننا نُقدِّرُ عالياً أنهم يدافعون عن وجودنا وعقيدتنا، وأننا سنبذل أرواحنا رخيصةً لو أُتيح لنا تقديمها فداءً لفلسطين والأقصى. وهذا أقل ما يمكننا القيام به في زمانٍ يُصَدَّقُ فيه الكذوبُ، ويُكَذَّبُ فيه الصادقُ، ويشمت فيه بعض المسلمين في إراقةِ دماء المسلمين بغياً وعدواناً. كم نشعر بالخزي من أنفسنا، يا فلسطيننا وقدسنا وأقصانا، عندما نرى كرام أمتنا من أبنائكِ يُسَطِّرون بدمائهم وأرواحهم أعظم ملاحم تاريخنا، ونحن جالسون نشاركهم في بطولاتهم بمشاهدة نهر دمائهم الزكية في القنوات الفضائية. [email protected]