13 سبتمبر 2025
تسجيلعندما أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب بحفر خندق حول المدينة المنورة، لم يبتغ حينها أجرا، ولم يفكر في تربح أو فوز بصيت أو هيبة، ولم ينوِ تكسبا من وراء مشورته، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشاد بنصيحته وأثنى على فكرته، فلم يجحدها، ولم يجعل سداد الرأي والحكمة حكراً عليه، صلى الله عليه وسلم، بصفته النبي المرسل المعصوم أو القائد الأعظم، على الرغم من أنه قد أوتي من الحكمة والحنكة والبصيرة ما لم يؤت بشر قبله ولا بعده، فظل العرب يتذاكرونها والمسلمون إلى أن وصلت إلى يومنا هذا!. ولأنه محمد صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وإمامها وقائدها فقد أنصف الفارسي، وقدر فطنته ورجاحة عقله، بعد أن ساهمت فكرته في تفوق المسلمين وانتصارهم في غزوة الخندق، التي تعتبر أولى غزواته مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا أن دوره فيها كان بارزاً ومؤثراً، بل قد يكون الحدث الأكبر في حياة الصحابي الجليل بعد اعتناقه للإسلام. فالأصل الاعتراف بالفضل ونسبه إلى أصحابه، وتبيان الحق بقلب صحيح وعدم إنكار المعروف ولو كان على مستوى فكرة أو نصيحة أو مشورة، فكل شيء في الكون يعود إلى الفكرة، فلماذا يستهين بها فئات من الناس في مجتمعاتنا؟! وتضيق الصدور فلا تقرها ولا توليها قدرها، فترشقها بسهام النقد الفاحش والجحود والوان الظنون والاستخفاف، تارة بدافع المكابرة والحسد، وأخرى لتعارضها مع الأهواء والرغبات، وما قد يلحق ذلك من الاجتراء ليصل حد تقبيح النوايا واضطهاد المقصد والغايات، وهذا سلاح الضعفاء العاجزين. ولا يخفى علينا القيمة العظيمة للمشورة والاجتهاد في الرأي الذي هو في الأصل عبارة عن الفكرة، التي تنبثق عن الروابط العصبية التي تتشكل في الدماغ، وكما نعلم أن الدماغ هو رحم الأفكار، والإرادة والقدرة على الانجاز هما سبيلها لانقضاء مخاضها وبزوغ نورها، وبما أن الفكرة تسبق العمل فهي البذرة التي تحتاج أن نصقلها، إذ إنها تستمد قيمتها من خلال ريها بالجهد والعمل وجودة التنفيذ. فإن صدقها الإنسان وآمن بها فقد تُغير مجرى حياته، وشخصيته، وعاداته وسلوكياته، فالفكرة تغير من الفكرة وتحرفها أو تنميها. لذا من الفطنة أن نرهف مدخلات العقل منشأ الأفكار فيقوم بتفكيكها وحلحلتها لتشكيل الأفكار وصياغة الآراء، ثم تقييم هذه الأفكار وتجربتها وتطبيقها مع الاستعداد لتعديلها أو إجراء التغييرات اللازمة عليها إن لزم الأمر ذلك، فليس هناك أفكار ثابتة سوى تلك التي تختص بالتوحيد والعبودية لله سبحانه وتعالى، وما ورد في كتابه وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم، أما دون ذلك فهو مجرد أفكار قابلة للتغيير والنقض والتطوير. فأطلق قيود العقل وأزل عنه الحدود والحواجز وجانب جمود الفكر والتحجر، واجعل من عقلك محطة استقبال لجميع الأفكار والآراء ثم قم بفلترتها وتمحيصها، وانتبه أن تحاول تقديس أفكارك وآرائك وفرضها على الآخرين فهي محاولة أوتوقراطية فاشلة، حيث إن الحق مكفول للجميع في تكوين أيديولوجياته الخاصة وإن لم ترق لك، فقد آن الأوان للتحرر من استئثار الرأي وعبودية التعصب، فمنهاج احترام الأفكار واستيعابها ومناقشتها مفتاح التحضر ومسلك الحكمة! فلا تتعجل في إطلاق أحكامك فالأناة في الحكم مطلب اذا ما كان الفكر محتملا للصواب أو مستأنفا لجديد. فالعقول النيرة أعظم ما تمتلكه الأمم من ثروات، فلا قيمة للموارد المادية إن لم تبدع العقول بوعيها وحنكتها في حسن استغلالها والانتفاع بها، فإن غيب العقل وحاد عن مساراته وانساق وراء سَقَط المتاع، وتركت النفس لما تشتهي؛ ساد الجشع والطمع وكثر الهرج والمرج. وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى في خلقه، بالتباين والاختلاف في قوة الفكر والادراك حتى تجد هذه الأفكار والآراء طريقها نحو التكامل والاتساق الناجع مع وجوب حفظ وإقرار نسبها إلى آبائها، كما نُسب الخندق للفارسي. [email protected]