13 سبتمبر 2025
تسجيلكلّ صباح تسيل الظلال من الجدران، غامرةً عائلات كاملة ملتمّة حول فطور الصباح، كانت الظلال كريمةً معنا في الصيف، فتمهلنا إلى وقت متأخّر حتى تنحسر نهائيًا عن مجلس متقشّف حدّدته حصيرة النايلون الطويلة بألوانها الباهتة، لم يكن ثمّة مكيفات تغري بالدخول، ولا فضائيات تبث صباحًا، وحده الراديو الذي يلتقط إذاعات بعيدة يضعف إرسالها كلما اقتربت الظهيرة. ظلّ في ذاكرتي منها القليل: مونتكارلو- لندن- صوت أمريكا- دمشق- بغداد- طهران... نعم، طهران التي تبث بالعربية حتى العاشرة صباحًا مختتمة بنشرة أخبار. في تلك الظلال شهدت عجائز يمخضن اللبن، ويقطّعن قشور البطيخ للبهائم، ويحضّرن قطرميزات ( قوارير) المربّى والمكدوس، ولا يخلو الأمر من أخبار ليست للنشر، عن زيجة في طريقها إلى الإعلان، أو مشاجرة بين ضرّتين، وصلت تفاصيلها للتوّ، أو.. أو..ولم تكن تلك الظلال تطيق أحاديث يتقابل فيها الرجال لحلّ مشكلة، فالظلال أيس كريم وليست شايًا، ومدمنوها يدركون أن سقفها لا يتجاوز إفطار (بطيخ أحمر ولبن رائب)، ولهذا لم تستضف في الأصابيح غير البهيج. ولا تلبث أمّي تقول: "جاءتكم الشمس" حتى ندخل إلى الدار.برع الشعراء والأدباء في وصف الظلال، ولكنّ الظلال التي تخصّني، تلك التي تركناها في هجير الحرب، لم أجدها في قصيدة أو رواية، الظلال التي تتسع لكهلين يحتسيان لبنًا ويأكلان رغيفًا، الظلال التي فرش فيها بائع الأقمشة صرّته وتتحلّق حولها نساء الحيّ. تلك ظلالي وليست ظلال المتنبي التي صنعتها شمس شعب بوّان، وليست ظلال الدرويش التي تلاحقه كسلوقي، ظلالي التي راقبتها سنين وهي تصنع أبطالها وعابريها، ثم تذوب على رأي خوان رولفو في رائعته "بيدرو بارامو".في تلك الأيام، الأيام التي كانت فيها العطلة للنوم والقراءة، ومراقبة الشمس الهاربة من خطّ الاستواء، تشاركنا ذلك الصيف من حصاد الشعير، حتى موسم العنب. لكنّ الظلال كانت إحدى فواكه الصيف، صيفنا الذي صار بعيدًا.