12 سبتمبر 2025

تسجيل

حدثوا الناس بما يعرفون

18 أبريل 2012

الدعوة تعني البلاغ، وأصول البلاغ مراعاة أحوال الناس فهماً لواقعهم وبيئاتهم، وتحديثهم بما تعي عقولهم حتى لا يكذَّب الله ورسوله كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!" وهذا يعني أن العالِم قد يكتم بعض العلم مراعاة منه لحال المدعو؛ فليس كل ما يعرف يقال. الصبر واللين من أهم وسائل الدعوة، والداعية لابد أن يهيئ نفسه على الصبر والتحمل، فهو يقوم برسالة عظيمة وأمانة جليلة جسيمة تحتاج إلى صبر، وقد قال الله لنبيه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل:5]. وقال ليحيى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12] نظرا لعظم ما يلقى عليه، وما سيلاقيه أثناء دعوته وقد أشار القرآن إلى ذلك في قصة لقمان وهو يوصي ابنه: (أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك). وقد ذكر أهل العلم شروطا ينبغي مراعاتها قبل إنكار المنكر، وأول ذلك: معرفة الدليل عليه، وثبوت النص القطعي به، وألا يكون مرد الامر إلى خلاف، فالخلاف أمر شرعي والقاعدة الأصولية تقرر: لا ينكر على مختلف فيه بل الإنكار على المجمع عليه. إذاً فإذا ثبت الدليل على المنكر توجه الإنكار بضوابطه كما قال صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وإنما قلنا بضوابطها لأن أهل العلم ذكروا أن المنكر إذا خلف منكرا أشد منه وجب عدم الإنكار. ولكن أهم ما ينبغي الالتفات إليه: مراعاة أحوال الناس بعدم تحميلهم ما لا يحتملون أو ما ينكرونه أو يصدهم عن الهدى، فإن ذلك أدعى لقبول الموعظة، والبعد عن مواطن النفرة والتكذيب، أشار إليه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذّب الله ورسوله؟" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". ولذلك حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذلك وكانوا يتواصون به فيما بينهم، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا؛ فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، فتمت. فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها؛ فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: "أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة". مراعاة لحال الناس، وفي المقال القادم نكمل إن شاء الله.