12 سبتمبر 2025
تسجيلمضى الحديث سيرا على عجل عن القلوب وأهميتها وضرورة مراجعة خط سيرها إلى الله، ذلك أنها تصح وتمرض، وتقوى وتضعف، وتلين وتقسو، وتأتي أهمية المتابعة في الرقي والترقي حال صحة القلب، والحذر والانتباه مع أخذ الحيطة عند الضعف والرخوة، وتلك آفة أهل الغفلة؛ لا يحسنون معرفة قلوبهم ولا حالها ولا يحسنون فهم رسائل الله لهم، ويمهلهم الله لكن لا يهملهم فمن لم يفهم عن الله سلما؛ فهم حربا وجبرا حين تأتيه القوارع التي توقظ قلبه رغما عنه . أهل القلوب السليمة يحذرون قوراع الملك، ويعلمون أن القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في الحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة، والتوكل، والإنابة، والخدمة، كما قال ابن القيم رحمه الله، ترى أهل الصلاح يجتهدون ابتداء في معرفة الداء قبل استجلاب الدواء، وهذا من حسن فهمهم وتدبيرهم، وقد ذكروا أن أسباب ضعف القلب أو موته كثيرة أجملها الإمام الزاهد العالم عبد الله بن المبارك بقوله: رأيت الذنوب تميت القلوبوقد يورث الذُّل إدمانهاوترك الذنوب حياة القلوبوخير لنفسك عصيانها هذا عن السبب الرئيس للغفلة، لكن ثمة تفصيل عند أهل العلم نذكره إجمالا في النقاط التالية: أولا: الغفلة عن ذكر الله: الغفلة أحد أسباب قسوة القلب ويكفيك قوله -تعالى-: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى " . ثانيا: غياب تدبر آيات الله المسطورة والمنظورة، أما المسطورة فكتاب الله عز وجل قال -تعالى- : "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " قال أهل التفسير: أُريدَ بذلك توبيخ الإنسانِ على قسوةِ قلبهِ، وعدم تخشعِه عندَ تلاوتِه، وقلةِ تدبرِه فيه، وأما المنظور فهذا الكون الفسيح الذي ينطق بوحدانية وقيوميته على خلقه صباح مساء، قال- تعالى-: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ".ثالثا: كثرة المعاصي مع غياب الاستغفار تسود القلوب الصالحة، قال -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن زاد زادت، حتَّى يعلو قلبه ذاك الرَّان الذي ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن: "كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ "، يقول الإمام المحاسبي: (اعلم أنَّ الذنوب تورث الغفلة، والغفلة تورث القسوة، والقسوة تورث البعد من الله، والبعد من الله يورث النار، وإنَّما يتفكر في هذا الأحياء، وأما الأموات فقد أماتوا أنفسهم بحب الدنيا .رابعا: التفريط في الفرائض وانتهاك المحرمات: قال -تعالى-: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً " وبيَّن ذلك بقوله- تعالى-: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً".خامسا: ضعف الزاد إلى الله بالانشغال بالتنافس على الدنيا: يقول ابن القيم رحمه الله: (شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة، لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة، ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد. إذا غذي القلب بالتذكر، وسقي بالتفكر، ونقى من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة، إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد . سادسا: التمني وطول الأمل: يقول الإمام المناوي -رحمه الله- : (طول الأمل غرور وخداع، إذ لا ساعة من ساعات العمر إلا ويمكن فيها انقضاء الأجل، فلا معنى لطول الأمل المورث قسوة القلب، وتسليط الشيطان، وربما جرَّ إلى الطغيان). سابعا: التوسع المذموم في المباحات: فقد ذكر أهل العلم أن قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة، الأكل، والنوم، والكلام،والمخالطة، وقال بعضهم: (وفي كثرة النوم ضياع العمر، وفوت التهجد، وبلادة الطبع، وقسوة القلب، وفي كثرة الطعام، قسوة القلب "، وقال الفضيل: (ثلاث خصال تقسي القلب: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام) وقال أبو سليمان الداراني: (إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلبُ).ثامنا : مخالطة أهل الفساد، قال المناوي: (مخالطة غير التقي، يخل بالدين، ويوقع في الشبه والمحظورات، إذ لا تخلو عن فساد، إمَّا بمتابعة في فعل، أو مسامحة في إغضاء عن منكر، فإن سلم من ذلك- ولا يكاد - فلا تخطئه فتنة الغير به).تاسعا: غياب الرحمة بالخلق وضعف الإحسان إليهم، عن عائشة، رضي الله عنها قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: تقبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحمة؟ ".عاشرا: الكسل والفتور: وهو مرض يصيب القلب، وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فقال: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل".حادي عشر: كثرة الجدال: قال الشافعي: (المراء في العلم، يقسي القلوب، ويورث الضغائن . ثاني عشر: الابتداع في الدين: قال -تعالى- "وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).