12 سبتمبر 2025
تسجيلولَسْتُ أَرَى السعادةَ جَمْعَ مَالٍ ... ولكنَّ التقيَّ هو السـعيدُالحياة بلا سعادة كالجسد بلا روح، أو كالسيارة بلا مقود، أو السفينة بلا قبطان، إنها سفينة نوح لكل غريق في بحر الهموم، وهي في ذات الوقت كل منعم ميسور، هي مطلب جماعي فالفقير والغني، والصحيح والضعيف، والوزير والغفير، الكل ينشدها ويلتمسها، ربما يسافر الزمان الطويل طلبا لها، وينفق الأموال الكثيرة تحصيلا لها، وهي بين يديه لو أراد. فما هي السعادة ؟ في استفتاء أجري على حوالي ستة عشر ألف إنسان، سئلوا فيه: ما هي السعادة؟كانت إجاباتهم كالتالي:أولاً: السعادة هي الحب (35%) تقريباً.ثانياً: السعادة هي الرضا (28%).ثالثاً: السعادة هي الصحة (17%).رابعاً: السعادة هي الزواج (7%).خامساً: السعادة هي المال (5.5%).سادساً: السعادة هي الأطفال، حوالي (4%).وعلى غرار ذكر الأستاذ العقَّاد قصة لزميل له رسام حاول أن يتخيل معنى السعادة، فتصورها في صورة فتاة مراهقة تركض ذات اليمين وذات الشمال، في قوة ودعة واندفاع، وشعرها يتطاير يمنة ويسرة.يقول: فاستدركت عليه وقلت له: إنني أتخيل السعادة وهي تجاوزت هذا العمر، فهي ليست في فترة الغرارة والجهالة والصبا والاندفاع، وإنما هي في فترة التجربة والقوة والخبرة، وأيضاً ليست السعادة شيئاً كهذا، إن هذا يمكن أن يعبر عنه بالفرح أو بالقوة أو بالاندفاع أو بالمراهقة، أما السعادة فإنها شيء فيه معنى الرضا والاكتفاء، فلا بد أن تكون ملامحها راضية هادئة حزينة مؤمنة، ولا بد من ألم تلطفه الذكرى، ولذة يطهرها الحنو، ونشاط يلوح عليه التعب والإعياء.والمعنى الذي أراد الأستاذ العقاد إيصاله: أن السعادة ليست قولا علمياً نظرياً، ولا شيئاً يرسم في قوالب جامدة، إنها شعور وإحساس لا يفرق بين الضيق والشدة، ولا بين البلاء والعافية، متى ما وجده صاحبه استشعر السعادة ولو كان في جوف البلاء منغمسا، أو على رأس العطاء منعما، تدل عليه من كتاب الله آية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إنه الأمن النفسي الذي يصرف صاحبه عن الضلال أو الشقاوة، وطريق الوصول إليه عبر التاريخ واحد وهو (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) يفصل الأمر ابن القيم رحمه الله فيقول: "ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة لـه ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، ومنه يخاف؛ فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص لـه وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر، الذي لـه خُلِقَ الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى بفوته حسرة وعقوبة. وأهل السعادة ينظرون إلى غيره نظرة شفقة يجسدها أحد التابعين بقوله: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها ؟ قال : محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته .ويشرحها غيره فيقول: إنه ليمر بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب .ولله در العلامة القرضاوي حفظه الله ومتع به حين يقول: قالوا السعادة في السكون وفي الخمـول وفي الخمـود في العيـش بيـن الأهـل لا عيـش المهــــاجر والطريـد فـــي لـقمـــة تـأتـــي إليـك بغيـر ما جـــهـد جـهـيــــد فـــي المــشي خلف الركب في دعـة وفي خطـو وئـيـد فــي أن تـقـــول كمـــا يقـال فـلا اعتـراض ولا ردود فــي أن تـسيـر مع القطيـــع وأن تـقـــاد ولا تـقـــود فــي أن تـصيـــح لكل والٍ عــاش عـهــدكـم المـجـيـد فــي أن تـعيــش كما يـراد ولا تــعيـش كمـــا تـــريـد قـلت الحيـــاة هي التـحرك لا السكــــون ولا الهمـود وهــي التـفــاعل والتـطـــور لا التـــحجـر والجـمـــود وهــي الجـهـــاد، وهل يجـــاهـــد من تـعلق بـالقـعــود وهــي الشعــور بالانـتـصــار ولا انـتـصار بلا جـهــود وهــي التـلـــذذ بالمتــــاعـب لا التـلـــذذ بـــالـرقـــود هــي أن تـــذود عـــن الحـيــاض، وأي حـر لا يـذود؟ هــي أن تــحـس بأن كـــأس الـــذل من مـــاء صـديـد هــي أن تـعيــش خليـــفة في الأرض شأنـك أن تـسود هــي أن تـخــط مصيــر نفسك في التـهام وفي النـجود وتـقــول لا، وبمــلء فـيـــك لكـــل جـبـــار عنـيـــد هـذي الـحيــــاة وشــأنـهـا مــن عـهـد آدم والجــــدود فـــإذا ركـنـــت إلــى السـكــون فـلذ بسكـــان اللحـــود أفبـعـد ذاك تـظن أن أخـــا الـخمـــول هـو السعيـــد؟