17 سبتمبر 2025
تسجيلزحف الناس إلى الشارع في بلدان "الربيع العربي" وأسقطوا في طريقهم قيادة ورموزا صعدت على ظهر الدبابات العسكرية الفولاذية، وكشفوا لنا وفضحوا سدنة هيكل الأيدلوجيات الوطنية القومية والدينية والمذهبية في الدول العربية الأخرى. لقد مات الأب في مصر وهرب من تونس وقتل في مصارف المجاري في ليبيا، وآيل للانتحار في سوريا، لكن الإرث الثقيل يظل معلقا في رقاب العباد وعلى رأسها الاستبداد ومؤسسات الفساد وغياب الحرية وتشويه الديمقراطية. ورغم الخوف من المستقبل والقلق من إفرازات التغيير والهلع من الانقسامات والفوضى إلا أن التاريخ يعلمنا انه لم توجد ثورة لم تتعرض للفتن والزلازل والمحن وهو ثمن الخروج من مرحلة الديكتاتورية المظلمة وكسر قيود والأغلال التي كبلت رقاب العباد وحرمتهم من الحرية باسم الأمن وحماية النسيج الاجتماعي من التجزئة والتفنن والضياع، الرئيس الأمريكي الراحل بنجامين فرانكلين يقول "من يتخلى عن حريته خوفاً على أمنه، لا يستحق حرية ولا يستحق أمناً". الحالة السورية كانت ومازالت الأبرز في إثارة المخاوف والهواجس والصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية خصوصا في صفوف الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، وهي نجحت بامتياز في التأزيم والتقسيم وتطبيق سياسة فرق تسد وجعل طائفة واحدة تسيطر على مقدرات ومصائر الجميع والذين يشكلون ما يقارب 70% من السّنة (العرب)، 8 إلى 9% من العلويين (العرب)، 8% من السنة (الأكراد)، 8% من المسيحيين (العرب الأرثوذكس في الدرجة الأولى)، 2 إلى 3% من الدروز (العرب)، 1% من الشيعة (العرب وسواهم)، أقل من 1% من السنة (الشركس)، أقل من 1% من أقليات أخرى كاليزيدية والإسماعيلية، ومنها عدة آلاف من اليهود. وكانت أكبر خديعة في دولة الممانعة والصمود هي رفع شعار العلمانية بطابعها السوري البعثي العسكري المتفرد عن الجيران اللبناني والعراقي، والتي جاءت لتهدم المجتمع المدني لصالح استبداد أقلية وهي الطائفة الأقلية العلوية بأغلبيات مختلفة مفككة الطوائف. وهي نسخة مشوهة من الإقطاعية سادت خلال العصور الوسطى واتسمت باختفاء مفهوم الدولة والمواطنة مع سيادة الطبقية الاجتماعية، وقد أسهم هذا النظام في تخلف القارة الأوروبية لعدة قرون، ولأكثر من نصف قرن في بلاد الشام. ويكمن الاختلاف بين النموذج السوري واللبناني والذي تلتغي في كلتيهما مبدأ المواطنة ومفهوم المجتمع المدني، إن الأخير يسمح بالمشاركة غير العادلة في السلطة وبتقطيع «الكيكة» وتوزيعها بين الطوائف حسب المحاصصة والاتفاقيات الواهية المبرمة، بينما السوري يختزل السلطة في طائفة واحدة تضيق لتصبح متمثلة في العائلة والقريبون منها ويلغي كيان الطوائف الأخرى. ونتيجة ذلك استطاعت السلطة الشمولية القمعية أن تترعرع وتتوالد وتنمو ويصبح من الصعب اقتلاعها. من الجانب الآخر كل من كان يطالب بالتغيير يواجه بالقمع والتجويع والتهميش والاعتقال والقتل، إلى إن انفجرت الأوضاع كالبركان في وجه الجميع، والمطلوب من الثورة بمخرجاتها أن تدك البنى الاستبدادية القديمة لتقيم مقامها بنى ديمقراطية جديدة. لكن لا سبيل إلى العودة إلى الوراء وأحياء الحكم الشمولي وبعث الديكتاتورية لتطل برأسها من جديد في صور أخرى عسكرية، مدنية، دينية، مذهبية بعد كل الضحايا الذين قدموا أروحهم لكي تنتصر الحرية. لقد سقطت حجج الاستبداد وانكشفت الأقنعة الديكتاتورية وانهارت أعمدة الأيديولوجيات العربية وعقارب الساعة لا تعود للوراء.