15 سبتمبر 2025

تسجيل

تداعيات الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي

18 يناير 2023

غدت أوروبا واتحادها الواسع، أكثر مناطق العالم تأثرا بل وانكشافاً تجاه أية أزمة دولية. إذ كلما واجه الاتحاد الأوروبي أزمة عالمية، طفا على السطح بقوة وبسرعة رهيبة مدى الهشاشة والتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تعتري الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ومنظومة قيمة وتشريعاته ونخبه الرئيسية. بحيث تنذر بتفكك لهذا الاتحاد ربما خلال العقود الثلاثة القادمة. بدأت معالم الانكشاف الحقيقي لهشاشة الاتحاد عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسقوط ثلاث دول أوروبية في شبح الإفلاس، كان أفدحهم اليونان. مما اضطر الاتحاد إلى التدخل عبر حزم إنقاذ مالية بضغوط ألمانية فرنسية قدرت بالمليارات. وكشفت هذه الأزمة أن الأساس الاقتصادي الذي بني عليه الاتحاد يعتريه الكثير من العوار والغموض أيضا. إذ ضم الاتحاد في منظومته دولا هشة اقتصاديا خاصة دول شرق أوروبا، أصبحت عبئا على الدول الاقتصادية الكبيرة كألمانيا، ويماطل حتى الآن مع تركيا الأقوى اقتصاديا بكثير من دول شرق أوروبا، بشان عضويتها الكاملة في الاتحاد. وهذا يؤكد أن غرض التوسع المفرط للاتحاد ينبع من منطلقات سياسية وإيديولوجية محضة باعتباره "ناديا مسيحيا" لحماية الهوية الأوروبية (العلمانية-المسيحية-الليبرالية)، وإضعاف روسيا على وجه التحديد. لكن ما كشفته الأزمة أيضا قد برهن على هشاشة هذه المنطلقات. حيث أدت سياسة الإنقاذ المالي للاتحاد إلى تصاعد الغضب الشعبي في الدولة الغنية تجاه مغزى مساعدات هذه البلدان والتي يتحمل تكلفتها المواطن العادي دافع الضرائب. وتطور هذا الغضب إلى تنامي شكوك شعبية وأكاديمية تجاه جدوى استمرار الاتحاد في حد ذاته. لكن كان الأخطر على الإطلاق هو أن الأزمة كانت بمنزلة الفرصة الذهبية لصعود شعبية اليمين المتطرف في أوروبا. وحلت أزمة اللاجئين في عام 2015، لتعمق الانكشاف الأوروبي على نحو ملفت. إذ دب خلاف كبير بين دول الاتحاد حول مسألة استقبال لاجئي الشرق الأوسط والذين قد تجاوزا آنذاك المليونين. وكانت تلك الأزمة أيضا، البداية الحقيقية لتفكير بريطانيا في الخروج نهائيا من الاتحاد، كما ساهمت الأزمة في احتلال اليمين المتطرف مكانة متقدمة جدا في أوروبا. إذن، قد كشفت الأزمة أن الأساس الليبرالي والأيديولوجي للاتحاد كان يعتريه خلل فادح من الأساس. إذ تم إعلاء الهوية الوطنية على هوية الاتحاد أو الهوية "الأوروبية الجامعة"، كما تم إعلاء المصالح القومية الضيقة بشان استقبال اللاجئين وما يمثله ذلك من تداعيات وأعباء اجتماعية واقتصادية، على مصالح الاتحاد العليا. وأخيرا مدى هشاشة القيم الليبرالية والذي جسدها الصعود القومي لليمين المتطرف. ويرى البعض، أن أزمة كوفيد-19 قد مثلت أخطر الأزمات الكاشفة للهشاشة الكامنة للاتحاد، بل لأزمة المنظومة الليبرالية -القيمية للغرب عموما. حيث ضربت دول الاتحاد لاسيما الكبرى جميع القيم الليبرالية التعاونية عرض الحائط، باحثة كل دولة بمفردها بشكل أناني مفرط عن طوق النجاة من هذه الأزمة الكارثية الوجودية. حيث أغلقت دول الاتحاد حدودها تجاه بعضها البعض، وتآمرت على بعضها البعض من أجل الاستحواذ على المستلزمات الطبيبة والوقائية لمواجهة الأزمة. بالإضافة، كشفت الأزمة على عمق هشاشة النظم الصحية والاجتماعية والاقتصادية لدول الاتحاد في مواجهة الأزمة. ولعل الدرس المستفاد الذي كشفه حال أوروبا في مواجهة الأزمة، أن القيم الليبرالية التي تأسس عليها الاتحاد ويتشدق بها ويريد فرضها على الآخرين، والتي تشمل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والتعاون المؤسسي، وحرية التجارة، سرعان ما تذهب إلى أدراج الرياح، وتطفو الواقعية السياسية البرجماتية أمام مواجهة خطر هائل بوزن أزمة كوفيد. ونحن نرى، أن الحرب الأوكرانية تعد أخطر الأزمات الكاشفة تماما لهشاشة الاتحاد الأوروبي ومنظومة قيمه. في أعقاب اندلاع الحرب برزت ثلاثة تطورات شديدة الخطورة. أولها، الهشاشة والانكشاف الأمني الخطير لأوروبا، وهو ما تجسد في إعلان ألمانيا عن نيتها في إعادة تسليح نفسها بسبب تغول الخطر الروسي. كما أعلنت دول أخرى كفنلندا عن رغبتها الانضمام إلى حلف الناتو. وجاءت تلك الإعلانات بعدما عجز حلف الناتو ومن ورائه الولايات المتحدة عن إيقاف التمدد الروسي في أوكرانيا. وهو ما اسهم في زيادة قناعات دول الاتحاد الكبرى خاصة ألمانيا وفرنسا بأن الاستمرار في الاعتماد على الحماية الأمريكية وحلف الناتو كذلك، مجرد لهث وراء السراب. وتبني دول أوروبية لخطط لإعادة تسليح جيوشها، يمثل في واقع الأمر إرباكا شديدا للاتحاد وآليات التعاون والتنسيق بين دوله، كما سيعيد أوروبا إلى حالة من التوترات والمشاحنات، ويزيد من انزواء وأنانية تلك الدول بسبب الكلفة الباهظة للأمن والعسكرة. والتطور الثاني، هو وصول اليمين المتطرف منفردا إلى سد الحكم في بعض الدول الأوربية كإيطاليا والسويد. بعدما وصل الناخب الأوروبي إلى قناعة تامة بفشل النخبة التقليدية المعتادة على مواجهة الأزمات لاسيما الاقتصادية التي خلفتها أزمة كوفيد، وأزمة الهجرة التي فاقمت من حالة الهلع من طمس الهوية الوطنية. وتفرد اليمين بالقرار السياسي سيترتب عليه أمور كثيرة غاية في الخطورة، ومنها الضغط بشان تقليص التعاون مع الاتحاد الأوروبي وربما الانسحاب منه تماما مقابل البحث بصورة ضيقة على المصالح الذاتية، التضييق على الحريات والحقوق خاصة للمهاجرين العرب والمسلمين. وعلى صعيد آخر، ربما الضغط لإعطاء روسيا المزيد من التنازلات بما في ذلك الأراضي الأوكرانية بأكملها. والتطور الثالث، أزمة الطاقة، وهذه الأزمة على وجه الخصوص قد كشفت لأوروبا خطورة مسالة الطاقة ونقصد الطاقة التقليدية (النفط والغاز) على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأوروبا برمته. فبسبب أزمة الطاقة، ارتفع التضخم في أوروبا إلى مستويات قياسية، واضطرت بعض الدول إلى تقليص قطع التيار الكهربائي لعدة ساعات يوميا. بينما لجت دول أخرى إلى العودة لاستخدام الفحم. وعلى إثر ذلك، أدت أزمة الطاقة إلى دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم سياساته الداخلية والخارجية حول أمن الطاقة، بعد الفشل الذريع في إيجاد سبل الحل عبر الطاقة البديلة. إذ تفكر بعض الدول الأوروبية في التوسع في استثمارات الطاقة التقليدية داخليا وخارجيا، وهو ما يعني رمي جميع المبادرات والسياسات المتعلقة بخفض التلوث والانبعاثات الحرارية من وراء الظهر، إزاء ضرورة توفير الطاقة بشتى السبل لحماية الأوروبيين من تداعيات شتاء أوربي قارص. وعلى نحو آخر، دفعت أزمة الطاقة الأوروبيين إلى إعادة تموضع في السياسة الخارجية وتعزيز الصلات بأي دولة ستزود أوروبا بالطاقة، رامية وراء ظهرها أيضا أية شوائب تدعيها متعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية قد تعكر صفو تلك الصلات. عندما تم تأسيس الاتحاد الأوروبي أكبر تكتل كونفدرالي في العالم وازدهر اقتصاديا بعد الحرب الباردة، جادل البعض أن تجربة الاتحاد الناجحة قد قطعت الشك باليقين بانتهاء عصر الواقعية الذي سادت فيه الحروب العالمية والصراعات الجيوسياسية والعسكرية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء الحرب الباردة على الأراضي الأوروبية. حيث دخل العالم إثر نجاح الاتحاد الأوروبي، العصر الليبرالي الذي يسوده السلم والتعاون والمنفعة الاقتصادية. لكن أثبت واقع العالم بعد الحرب الباردة، أن سيادة العصر الليبرالي مجرد وهم كبير. وأن الاتحاد الأوروبي مجرد شكل من أشكال الواقعية السياسية، تكشفت تدريجيا بمرور الوقت.