12 سبتمبر 2025

تسجيل

ثورة الشعب التونسي... درس الإرادة

18 يناير 2011

محمد بوعزيزي وأبو القاسم الشابي، معلمان لأجيالنا في مدرسة الإرادة الشعبية التونسية. أجاب أبو قاسم الشابي على سؤال ما العمل؟ وقال إرادة وشعب. "إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاة.. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر"، وكيف؟ قال "وللحرية الحمراء بابٌ.. بكل يدٍ مضرجة يُدقّ". تلقي بوعزيزي رسالة الشابي، وجعل حياته رمحا أرسله إلى صدر نظام الحكم في تونس، ليصل خلال ثلاثين يوما، وعبر مائة شهيد برصاص الأمن، وأربعة شهداء آخرين على نهج بوعزيزي يدعمون رمحه برماح حياتهم لتبقى الشعلة موقدة. وحولت جماهير الشعب التونسي إجابة الشابي إلى واقع وحقيقة في كل الأرض التونسية، وحققت ما أرادت، وقبلت بدفع الثمن حشدا وحركة ودما. وهدمت أصنام الخوف والنخبة والاستقواء بالخارج. الشعب العربي بين الفرحة لانتصار أهلنا في تونس، وبين الرغبة في حماية هذا الانتصار ودعمه، وأعترف بصعوبة الكتابة حول هذا الإعجاز الشعبي، فما تم إنجازه إعجاز والمتبقي إعجاز آخر. قال صديق: نجحت حركة "الاحتجاج" الشعبية في تونس في تحويل مطلب اجتماعي واقتصادي إلى مطلب سياسي بتغيير النظام، وافقته وأضفت: كان يمكن أن يتم هذا وتهدأ حركة "الاحتجاج"، ولا تتحول إلى "ثورة" تشمل كل الوطن وكل الشعب، ولكن الحركة ارتبطت بمفهوم الحرية على إطلاقه وارتبطت بمعنى العزة والكرامة، وهذا الارتباط أكسب الحركة الشعبية سمات حركة التحرر الوطني وحولها إلى ثورة شعبية ضد نظام الحكم. يعرض فيديو على شبكة الإنترنت لأحد أبناء تونس في شارع بورقيبة أثناء حظر التجول، وهو يتحرك قاطعا الشارع بالعرض ويصرخ قائلا "الشعب التونسي ما يموتش"، "الشعب التونسي حر"، "تحيا تونس الحرة"، "المجد للشهداء"، والفيديو تم تصويره من أعلى عمارة سكنية، وتسمع صوتا بكاء، وتنطلق زغاريد وكأن الحي كله يسمع الرجل، هل هناك من يملك وصفا لهذا المشهد غير أنه شعب استرد عزته وكرامته وحريته. تجاوزت ثورة الشعب التونسي مرحلة الكلام والبغبغة، وتجاوزت عجز الأحزاب، وتلونها وتوافقها مع النظم الفاسدة وارتباط بقائها ببقاء تلك النظم، وتجاوزت قصور النقابات وجمودها سواء نتيجة القوانين المعوقة لوجودها أو لدعاوى التمييز بين العمل النقابي والعمل السياسي، وتجاوزت غياب التنظيم الجامع والمنسق لحركتها، وتجاوزت غياب قياده للحركة، وتمددت جغرافيا لتشمل كل الوطن، وكل الوقت على مدى الفترة من 17 ديسمبر حتى 14 يناير، وفي حسابات حركات المقاومة للاحتلال أو الأنظمة المستبدة يقسمون اليوم إلى ليل ونهار ولكل طرف جزء من قسمي اليوم، ولكن ثورة الشعب التونسي امتلكت الليل والنهار، سواء هناك حظر تجول ورصاص أو ليس هناك، ولم يقل لنا أحد بعد كيف امتلكوا طاقة العمل لدوام الأربع وعشرين ساعة، كانت حركة كل الشعب كل الوقت وفي كل الأرض. وانضمت بعض الكيانات المنظمة خلال الأيام الأربعة الأخيرة، بعد أن بلغت الحركة حداً لا يمكن عنده إعادتها للوراء، وأعلن الإضراب العام المتصاعد ليكون يوم الجمعة 14 يناير موعد الإضراب العام في تونس العاصمة وتشارك فيه نقابة المحامين. لم تستقو الحركة بالخارج الأمريكي أو الأوروبي، وهو ما يجعل قيمة ثورة الشعب التونسي تتجاوز الحركات الملونة في أوروبا الشرقية والتي دعمتها المخابرات الأمريكية بالتمويل والتدريب والمساعدات الفنية والإعلامية، وهو أمر استولى على عقل وإرادة الكثير من النخبة العربية، وأحالهم على قائمة الرجاء للإدارة الأمريكية، وهذا لم يفعله الشعب التونسي أو انتظره دعما لقواه. فرضت الحركة نفسها بقدرة الاستمرار وتصاعدها علي مستوى المطالب والانتشار، رغم الشهداء الذين سقطوا برصاص الأمن، بل وتكرار عملية الانتحار كما لو كانت إضافة طاقة تحدي لكل الشعب، مما فرض علي العالم الخارجي بعد ثلاثة أسابيع من التجاهل أن يعترف بها، والثورة على أبواب القصر لإزاحة ساكنه، وهو ما تحقق. التحدي الذي تواجهه ثورة الشعب التونسي دخل مرحلة حرق الأرض، والشعب التونسي يقاتل عنا جميعا معركة استخلاص السلطة من مغتصبيها. بدأت مؤامرات القصر والنظام من لحظة إعلان هروب زين العابدين بن علي، وكانت محاولة الالتفاف الأولى بتعيين رئيس وزراءه محمد الغنوشي لنفسه رئيسا بالنيابة، وأعلنت ثورة الشعب أنها لن تقبل هذا، وأن مظاهراتها مستمرة. وفي مواجهة هذا الموقف أعلنت بقايا النظام استحالة عودة الرئيس وتولي فؤاد المبزع (وهو من المقربين لبن علي) رئيس مجلس النواب مسؤولية الرئيس بالنيابة، وبدوره بدأ محاولة الالتفاف الثانية، بأن كلف محمد الغنوشي وهو المسؤول عن المواجهات الدامية خلال الشهر الماضي، بتشكيل الوزارة وأطلق عليها وزارة الوحدة الوطنية، وكما هي العادة تشاور الغنوشي مع الأحزاب التي يمكن أن تتوافق معه تأسيسا على أنها الأحزاب المرخص لها، وعاد الرئيس المؤقت وأعلن التزامه بالدستور وان الانتخابات الرئاسية ستتم خلال 60 يوما. ترتكز محاولات الالتفاف على دعوى "الدستورية" وهي في هذا تعود بتونس إلى التسليم ببقاء النظام مع استبدال رأس النظام، وتجاوبت أمريكا وفرنسا مع مقولة الانتخابات والديمقراطية والدستورية. وأضيف إلى محاولات الإفلات والالتفاف، عمليات تخريب منظمة تقوم بها عناصر تنتمي إلى مؤسسات أمنية للنظام، وبلغ الأمر بمدير السجون التونسية أن يصدر أوامر بفتح بوابات السجون وإطلاق سراح المساجين، وجرى إشعال النيران في عدد من السجون في وقت متزامن وبأسلوب واحد مما أدى إلى وفاة عشرات المساجين، غير حوادث تخريب لمنشآت وقتل لأفراد وترويع لأهالي، والغرض من ذلك كله يبدو إشغال الجماهير التونسية بالدفاع عن منشآتها ومساكنها وأرواحها، وصرف الانتباه عما يحدث بالفعل على المستوى السياسي، والحيلولة دون استعادة القدرة على التجمع والتظاهر. وفي تدخل غريب، يلقي معمر القذافي خطابا يردد فيه مقولات الرئيس الهارب، ويدين حركة الشعب ويدعي أن زين العابدين هو أفضل رئيس لتونس ومدى الحياة؟!، وكأنه يرسل رسالة للشعب الليبي أن الصبر على المكروه والجوع والبطالة أفضل من الثورة عليه؟! في مكان ما في هذه اللحظات، هناك غرفة سوداء يجتمع فيها العديد من ممثلي أجهزة المخابرات وممثلي الدول ليبحثوا الأمر، والسؤال الرئيس أمامهم ما تكلفة القبول بحدوث تغيير بهذا الأسلوب، وما مدى الخطر الذي يترتب على تحقيق نتائج ناجحة لحركة تمرد شعبي؟ وما مردود ذلك على دول المنطقة التي تموج بذات المعاناة والرغبة في التغيير للنظم الحاكمة؟ وهذا الدور يماثل الدور الذي لعبه "نادي السفاري" الذي كان يضم المخابرات الإيرانية والمغربية والفرنسية والمصرية في سبعينيات القرن الماضي ولعب أدواره في إفريقيا ضد حركة الشعوب في أنجولا وإثيوبيا. وفي ذات اللحظة لا يغيب عن المجتمعين الانتشار الخارجي لأبناء تونس وأبناء المغرب العربي في أوروبا، وهو الوجود الذي فرض على فرنسا الخروج عن قناعات سلطة ساركوزي، فرفضت لجوء زين العابدين إليها رغم ما أذيع عن أن فرنسا كانت طرفا في اتفاق مغادرته تونس. ومن بين البدائل المتاحة أمام الحركة المضادة للثورة، الحفاظ على بقايا النظام والتضحية برأس "بن علي" ومنعه من التصرف في أمواله، ويمكن الوصول إلى حد تسليمه للقادم على كرسي الرئاسة في تونس لمحاكمته على الفساد، وهذا كله لا تكلفة له إذا تمت مقارنته بتكلفة خروج الشعب التونسي منتصرا في معركة التغيير، ويحقق التغيير بإرادته وبقواه الذاتية. بقايا النظام ومعمر القذافي والغرفة السوداء لا تخوض معركتها في مواجهة الشعب التونسي فقط، ولكن معركتها الحقيقية في مواجهة استرداد الشعب العربي لإرادته وكسره لحاجز العجز والخوف والثقة في امتلاك قدرة التغيير. ويبقى على الشعب التونسي وقواه الحقيقية من اتحاد الشغل والمحامين والنقابات والأحزاب والقوى السياسية الرئيسة، مسؤولية الاحتفاظ بقوة الدفع وتنظيمها لمواجهة احتمالات المخططات المضادة للثورة، وإدراك أن إزاحة رأس النظام لم تكن هي الهدف، وأن الحزب الحاكم وبقايا النظام في الوزارة والمؤسسات والمجلس النيابي، هي منظومة الفساد، وأن الدستور وترسانة القوانين هي ستار يحمي أهدافها وليس لصالح الشعب، وكل ذلك في خندق واحد معاد للشعب التونسي، وعلى الشعب أن يدرك أن القدرة التي مكنته من تشكيل لجان شعبية للدفاع عن الأحياء والمنشآت في مواجهة عمليات التخريب بالتعاون مع الجيش، هذه القدرة تمكنه من وضع أساس بناء دولة حديثة في تونس المحررة. وتكون البداية من تشكيل وزارة انتقاليه تتولى إعلان حرية تشكيل الأحزاب، وحرية إصدار الصحف، وإلغاء العزل السياسي، وإعداد التعديلات الدستورية والقانونية المطلوبة وتشرف على انتخاب جمعية وطنيه لوضع العقد الاجتماعي الجديد وعلى أساسه تتم الدعوة لانتخاب رئيس للجمهورية، ويمكن حينها القول إن تونس على باب المجتمع الديمقراطي. كتب صديق من تونس في رسالة "إن مصلحة رموز الحزب الحاكم تكمن في بقائهم في السّلطة لتأمين مستقبلهم، وإلا سينتهي بهم الأمر في السجون، فشخص كـ"عبد الله القلال" رئيس مجلس المستشارين الصوري، لا يمكنه الخروج من تونس لأن محاكم سويسرية أصدرت ضدّه برقية تفتيش دولية لجرائم اقترفها لمّا كان وزيرا للداخلية. وقد ظهر "عبد الله القلال" هذا على يمين الوزير الغنوشي في خطاب تنحية بن علي وهو يرتدي ربطة عنق بنفسجية وهو اللّون المفضل لزين العابدين بن علي! وهذا الأمر رغم عفويته فإنّه يدل على أن فكر بن علي ومنهجه التعسفي لا يزال قائما في تونس رغم رحيله". التحديات كبيرة، وما تم إنجازه عظيم، وما زال الطريق لتحقيق الهدف في المنتصف.