14 سبتمبر 2025

تسجيل

تغيرات

17 نوفمبر 2014

لم أكن من هواة تأمل الصور التذكارية التي تمثلني في مرحلة ما، من مراحل العمر، أو تجمعني بأشخاص عرفتهم ذات يوم وضاعت تلك المعرفة في بحر الحياة الكبير، لكنني وجدت رغبة ملحة تدعوني إلى النبش في خزانة مغبرة واستخراج عشرات الصور، لقراءة تذكاراتها في ذلك المساء المشحون.. فردت الصور أمامي وأخذت أتأملها بعمق.. هذه مع دردر قائد القطارات الذي مات في حادث خرجت فيه قاطرته عن سكة الحديد.. هذه مع الخضر، منسق الحجوزات في الدرجة الأولى، الذي ظلّ يحصد لقب شخصية السكة الحديد السنوي، منذ أن أطلق وحتى اندثر، لا لشيء سوى أنه وجد أماكن لتسعة عسكريين في قطار ليس فيه مكان لشخص واحد، تحرك ذات يوم من مدينة جيبا التي بها كتيبة جبارة من حرس الحدود، ولم يكن يدري أنهم كانوا أعضاء مجلس قيادة لثورة جديدة، اندلعت بالفعل في العاصمة بمجرد نزولهم من القطار، هذه مع زكريا حنقة الذي كان ناظراً لمحطة المدينة، وأصبح فجأة وزيراً للنقل والمواصلات في حكومة استمرت لثلاثة أيام فقط.. هذه مع المقدم عادل التولة أعظم ضباط الشرطة على الإطلاق، حين كان ملازماً في شرطة السكة الحديد وكانت بمناسبة ترقيته إلى رتبة النقيب.. هذه مع الرحالة المقعد حاكم عذابو مؤسس حزب "وطنك الكبير" الذي أفخر بانتمائي إليه، بالرغم من بقائه حزباً مغموراً، بلا أعضاء، ولا برامج ولا خطط، وكانت في الذكرى الثالثة لتأسيس الحزب.. هذه.. هذه. وحين وصلت إلى صورة تجمعني مع مغنية الأفراح الشهيرة حواء سخطة في عرس أقيم مرة في حي السلاليب الشعبي أيضاً، لم أبتهج.. ولم أحس بحواء غير تاريخ متخلف أيضاً عليه أن يموت الآن. مزقت الصورة وألقيتها على الأرض.. ليظل مكانها خالياً في ألبوم الصور، ربما لتشغله فيما بعد صورة أشد جاذبية. فجأة سمعت طرقاً خفيفاً على الباب.. ليس مألوفاً لأذني فقد كنت أعرف كل الذين يطرقون بابي من طريقة طرقهم. أعرف الطرق المريع لموسى خاطر حين يكون دفتره بلا تقارير، ويسعى إلى تلفيق تقرير ما، الخشن والمتعجل لـ"منعم شمعة" المسافر، أو العائد من سفر، الناعم جدّاً للجميلة سلافة حين تأتي لاستشارتي، أو استفزازي، الذي تحدثه عصا الأبنوس السوداء في يد حكيم النبوي.. وحتى طرقات الأطفال حين يطرقون بلا هدف، كنت أعرفها. فتحت الباب فانفتح سلساً بلا صرير، وشاهدت في الضوء الخفيف لكهرباء الشارع، الطارقين وقد ارتفعت حواجبهما دهشة.. كانا شاكر تعيس الذي لم يذق ماء زمزم حين جاء إلى الحي بعبوة شاحنة، ونهل منها الجميع، والقبطي ميخا ميخائيل الذي سكن في الحي منذ عامين فقط بعد أن هاجرت عائلته كلُّها إلى أستراليا، وبقي هو في المدينة، بحجة كثافة الذكريات التي لا يستطيع تركها خلفه ولا يستطيع حملها معه. كان يصرخ في كل ركن يجد فيه آذاناً تستمع إلى الصراخ.. قبر أبي ميخائيل دقندس، مقهى روماني اللذيذ.. الأب مكارس الذي يحتاجني في شيخوخته.. كنيسة العذراء التي شاركت في طلاء جدرانها بالأبيض.. حبي الأول.. حبي الأخير.. آخ.. كيف أترك كل هذا وأذهب؟ هل جننتم؟.. كيف أتركه؟