11 سبتمبر 2025
تسجيليمثل قرار الرئيس بوتين إعلان التعبئة الجزئية للقوات العسكرية الروسية الذي أصدره قبل فترة منعطفا خطيرا للغاية في تطور الحرب الروسية في أوكرانيا. إذ يحمل القرار مدلولات عدة أخطرها أرجحية استخدام بوتين للسلاح النووي. وجاء هذا القرار نتيجة للهزائم التي تتلقاها القوات الروسية في أوكرانيا، أو بالأحرى الصعوبة البالغة التي تواجهها روسيا في حسم هذه الحرب. وتضاربت التقارير في هذا الصدد والتي وصلت إلى حد التأكيد على مقتل ما يقرب من 30 ألف جندي روسي في أوكرانيا، وإلحاق خسائر للقوات الروسية تقدر بنحو 80 مليار دولار أمريكي. وعموما، ما هو مؤكد مقتل عدد لا بأس به من الجنود الروس في أوكرانيا، وخسائر باهظة على مستوى العتاد والمعدات، وتمكن القوات الأوكرانية من استعادة بعض المناطق من روسيا. بالإضافة إلى الخسائر التي يتلقاها الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات. ويكمن نجاح القوات المسلحة الأوكرانية والمقاومة الأوكرانية في الحرب في أمرين، الأول وهو الدعم العسكري والاستخباراتي القوي الذي تتلقاه من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة. والثاني، الأهم والحاسم في تقديرنا، وهو "عدم عدالة" الحرب الروسية في أوكرانيا. يشير لنا التاريخ عبر الحروب القديمة والمعاصرة الكثيرة التي شهدها، أن الحروب غير العادلة عادة ما تنتهى بالهزيمة. فعندما تزج قوات نظامية في حروب تشعر أنها غير عادلة أو غير مبررة أو غير منطقية، تنعدم في هذه القوات الحماسة والروح القتالية العالية، ولا تجد هذه القوات السند الكافي لها من متطوعين جدد مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل قضيتهم العادلة كهزيمة معتدٍ غازي أو استعادة أرض مغتصبة. والعكس صحيح تماما، عندما تنخرط قوات نظامية في حرب عادلة لاستعادة أرض مغتصبة، تقاتل بروح قتالية انتحارية، وتتشكل يوميا مقاومة شعبية باسلة انتحارية مساندة للقوات النظامية. وتستمر هذه المقاومة في استنزاف القوة المحتلة حتى آخر قطرة دم حتى ولو استتب الأمر للمحتل تماما. فروسيا ذاتها قد نجحت في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بسبب الروح القتالية العالية جدا للجنود الروس. وانتهت تلك الإمبراطوريات الاستعمارية على مدار التاريخ بفضل المقاومة الشرسة وحروب الاستنزاف. وربما ذلك ما يفسر حتى الآن سبب تعثر القوة العسكرية الجبارة لروسيا في أوكرانيا أمام الجيش الأوكراني متواضع القدرات. إذ تحارب القوات النظامية الأوكرانية بروح قتالية خطيرة، وتتشكل يوميا في أوكرانيا مقاومة جبارة لمقاومة الغزو الروسي. وشاهد على ذلك أيضا، التقارير المؤكدة باستعانة بوتين بالمرتزقة والمساجين وقوات فاجنر لمساندة القوات الروسية في أوكرانيا قبل إعلان التعبئة الجزئية. وبخلاف الروح القتالية المنخفضة للقوات الروسية في أوكرانيا التي تعكس شعورهم بعدم عدالة ومنطقية الحرب، انعكس عدم عدالة الحرب أيضا في مناحٍ عدة، منها ما نقلته مؤخرا تقارير عن هروب الكثير من الشباب الروس خارج البلاد بعد إعلان قرار التعبئة، فشل المناشدات والإغراءات الروسية للشباب الروسي قبل قرار التعبئة بالتطوع في الحرب، تململ قطاع عريض من الشعب الروسي من الحرب وتبعاتها من عقوبات اقتصادية وعزلة خارجية، وأخيراً ارتفاع الأصوات المنتقدة لهذه الحرب من أقرب حلفاء بوتين، وهذا ما وضح جليا في قمة "شنغهاي" الأخيرة، عندما ألمحت كل من الهند والصين بخطورة الاستمرار في هذه الحرب. أعلن بوتين التعبئة الجزئية والتي تتضمن الزج بما يقرب من 300 ألف جندي روسي في الحرب، اعتقادا منه أن السبب الرئيسي في التفوق النسبي للقوات الأوكرانية هو الدعم العسكري الذي تتلقاه من حلف الناتو والولايات المتحدة. وإن كان ذلك صحيحا نسبيا؛ إلا أنه يتجاهل عن عمد أو غير عمد حقيقة عدم عدالة الحرب. وهذه الحقيقة هي التي ستؤدي إلى إلحاق هزائم أخرى بالجيش الروسي في أوكرانيا، وستزيد من حجم وقوة المقاومة الأوكرانية الشعبية. لاسيما في ضوء عدم استعداد قوات الاحتياط الروسية لهذه الحرب سواء عسكريا ومعنويا. وفي ضوء سيناريو هزيمة روسية أخرى شبه متوقعة في أوكرانيا، فمن المرجح بشدة أن يلجأ بوتين إلى الخيار النووي. سبق وأن هدد بوتين ومساعدوه في بداية الحرب باللجوء إلى الخيار النووي ضد حلف الناتو، وترافق مع قرار التعبئة الجزئية نفس التهديد. وتهديد بوتين لابد أن يؤخذ على محمل الجد لعدة أسباب رئيسية، أهمها شخصية بوتين ذاتها أو ما يسمى في علم السياسة النسق العقيدي للقادة. إذ هو شخصية تتسم بالتهور، لا تقبل الهزيمة، حالم بعودة الإمبراطورية السوفيتية، يكن عداء شديدا للغرب ولأوروبا تحديدا. وسبب آخر ذو صلة وهو أن هزيمة بوتين في أوكرانيا هي بمثابة نهاية أسطورته السياسية للأبد، وهذا ما يرجح تمسكه بسياسة الأرض المحروقة، إما كل شيء أو لا شيء. وربما يعتقد بوتين أيضا استخدام السلاح النووي ولو تكتيكيا أو بصورة بسيطة سيردع الغرب تماما، والعكس هو الصحيح، إذ سيجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة. وختاما يمكن القول إن الحروب غير العادلة تنتهي معظمها بالهزيمة، وهذا في تصورنا لن يتقبله بوتين بسهولة، الذي زج قواته في الحرب واثقا بانتصار سريع يعقبه مناكفة لدولة أخرى من دول الاتحاد السوفيتي السابقة في إطار حلم عودة أمجاد الاتحاد السوفيتي. وإزاء تعثر هذا الحلم، وتآكل شرعيته الداخلية والخارجية، ربما سيضطر إلى الخيار النووي، وعندها ستكون شرارة البدء للحرب العالمية الثالثة. ويبقى أمل وحيد في تقديرنا، تجلى في قمة شنغهاي الأخيرة، لمنع الكارثة النووية، وهو دخول حلفاء بوتين بكل ثقلهم، وخاصة الصين على خط الحرب، لإثناء بوتين عن استكمال هذه الحرب العبثية، والخروج بصفة تحفظ ماء الوجه له.