13 سبتمبر 2025
تسجيلالأساطير على حالها؛ تنام في ثنايا الكتب العتيقة، وتحتسي معنا الأناشيد في المدرسة، الجبل كما هو؛ يسرّح الهواء في كهوفه. "أمسِ الذي مرّ عن قربه// يعجز أهل الأرض عن ردّه"، ما لي وللأمس، فقد تركت البلاد قبل خمسة عشر عاماً، ولكنّ لي أهلاً هناك، مازالوا ينتظروني في الصيف. وكنت أحب المعرّي قليلاً، أجلس إلى نونيّته، وألمس بيض الأماني، ثم أغفو، فتطاردني الحروف، وأركض. لست عداءً، ولكنّي أجزم أنني ركضت يوماً ما كعدّائين محترفين، كان باص النقل يهمّ بالتحرّك، ربّما استوقفوه لدقيقة، كانت السادسة والربع تماماً، وكان يجب أن أقطع أكثر من مائتي متر، لألحق باص المدرسة قبل أن يفوتني. نجحت.. نعم نجحت. كنت يومها في السابعة عشرة، شاباً نحيلاً، وكانت البلاد مثلي تركض خلف باص السادسة والربع، وتثير وراءها غبار الأمل، وكان ثمة. الأساطير لم تنم بعد، الولد يحمل دونكيشوت خلفه في عربات " التري سيكل" الناريّة، تلك "الطريزينات" الصارخة على الإسفلت السوري، حاملة نبلاء الثمانينيات السوريين، مع فؤوسهم ونسائهم إلى مزارع البطاطا والخيار، كان دونكيشوت مثلنا يحمل فأسه، ويشق بطن الحكايات، وكنت ألهو مع أساطير تدبّ في أمسيات يونيو، تبكي معي فأبكي، وتضحك أحياناً، والحروف ذاتها، تركض خلفي في الليل، وأنا أركض، أركض، لكن ركضي يختلف حتماً عن تلك الركضة التي جريتها خلف الباص يوماً. لم أترك طاحونةً إلا وأفرغت قمحي فوق رحاها، لعلّ الدون كيشوت مرّ من هنا، لعلّه الآن خلف كيس طحين على ظهر دابّة، أو لعلّه يشتري طعاماً من دكّان. لعلّه لاجئ، أو سجين، أو حتى نازح يجمع بينهما، لعلّه يستمع إلى أخبار الحادية عشرة، أو يشارك في ندوة، أو يجري وراء عاصفة من غبار. كنت أتمنّى لو أقول: "ولكنّ مثلي لا يذاع له سرّ" أو " جِدِي مثل من أحببت تجدي مثلي" غير أني أسير خبر عاجل، أتحرّى مفردات معجمي فلا أجد غير: " تفجير – تكرير-تطوير- تهجير-تسفير- تقرير - تدمير-تحرير-تطهير-تبشيرـ هاون-سكود-توماهوك-ميغ-كيماوي-سارين-طفل-مذبحة-اغتصاب-اعتقال-اختطاف-نزوح-لجوء-مفاوضات-حلول-التنحّي–الانتخاب-التأجيل-التعليل-الشبيح-مندسّ-طائفي-وطني......". لا أجد مفردات نزار عن العصافير والياسمين والأيادي البيضاء الناعمة، لا أجد مفردات الدرويش حين يدسّ المأساة تحت مائدة حلم عريض. ها أنا تطاردني الكتابة كلّ يوم، بمفردات حادّة، وصراخٍ لا يهدأ، وأنا أركض أركض باحثاً عن فسحة للأخضر، الأخضر الذي صنعه أهلي هناك، وهم يقطعون يومياً ذلك الطريق المتعرج عبر الأودية، بـ"طريزيناتهم" المجهَدة إلى حقول صارت مساحة خضراء، جعلت الطعام متاحاً لفقراء البلاد. الأساطير تصحو أحياناً، تصحو لأيام معدودة، ثم تتمدّد وتنام، وتبتسم بينما أطفال في مدرسة ينشدون، وحدها أسطورة السوريين لا تنام، وجبتها اليومية مكلفة، وقريتي خسرت شباباً كانوا سيحملون فؤوسهم ويصنعون طعام الفقراء. هل استمرت طروادة سنتين ونصف السنة؟ هل استطاع أخيل أن يهرب من ذاك السهم اللعين؟ وبينيلوبي التي تنسج ثياب الانتظار، كيف ظلّت سنين عددا دون أن يمسها أحد، من أين جاء كلّ هذا الشرّ؟ من أين؟ هذه الحروف الحادة لا تنام.