25 سبتمبر 2025

تسجيل

تاريخ الفؤوس وجغرافيا الشجر

17 يوليو 2012

يخجل الإنسان ممّا يكتب ، يخجل ممّن يكتب عنهم ، الحروف أيضاً تخجل ، الحروف المرسومة على حجارة الكيبورد، الصفحات المشعّة بالضوء الباهت أيضاً خجلى ، صارت المجزرة عرفاً في أيام السوريين ، لها تقاليدها و طقوسها ، صراخ على الشاشات وقبور جماعية ، وتحليل سياسي جاهز ، ثم تأخذنا الأخبار إلى نسيان جديد . لا تسأل السوريّ المغترب عن صحّته ، لا تسأله عن حاله وراتبه وإجازة الصيف . سله عن أهله هناك ، قل له :" الله يفرّج عليكم ". فبعد كلّ مجزرة يعلو الصراخ و يتبرّأ القتلة من قتلاهم ، ويندّد الجيران والأقارب والأباعد ، وننتظر اليوم التالي على قتلى نتسلّى بعدّهم على رأي أحد الأصدقاء. المجزرة ليست مجرّد حروف يهجّئها طفل في الصفّ الأوّل باحثاً عن طبوق لها بين الصور ، ليست اسم مكان أو اسم آلة تعين مدرّس مثالاً يضربه لطالب كسول، ليست عاصفة نعبر ويبقى منها الاسم ، ليست حقل جزر على نهر متعب، ليست بقايا اللحمة في دكان قصاب الحارة ، ليست موجزاً في أوّل النشرة . يأخذ الجميع حصتهم من الصراخ ثم يذهبون إلى النوم، وتبقى المجزرة قطع لحم متناثرة بين الشجر ، يذهب السياسي إلى النوم وتبقى المجزرة صرخة طفل أخيرة في أذن أمّه ، تذهب قارئة النشرة إلى النوم تنفض عن ثيابها غبار الحوار الساخن وتنام قريرة العين، و تبقى المجزرة جثثاً تتزاحم بحثاً عن مأوى ، يذهب قارئو الصفحة الأولى من الجريدة إلى عملهم وتبقى المجزرة كابوساً يمنع طفلاً ناجياً من النوم، يذهب القاتل إلى النوم بعد أن بلطته من الدم المتيبّس، وتبقى المجزرة بقعة كبيرة من الدمّ في ساحة الحوش، تذهب الطائرة إلى النوم في مربضها العتيد، يدهنون مدفعها بالزيت، ينظفون السبطانة جيداً ..السبطانة نائمة، وتبقى المجزرة حفراً متناثرة تتعثّر فيها الدوابّ والحكايات، يذهب الجميع إلى النوم، تظلّ الدروب إلى المجازر وثيقة تحفظ الأقدام التي سعت، والجنازير التي دبّت، يذهب النوم إلى النوم وتبقى المجزرة تفقأ عين القاتل في المنام، وتنهض كشعاع فوق القبور الجديدة . من غيرنيكا إلى كفر قاسم من العامرية إلى الحولة، من ميّا فارقين إلى صبرا وشاتيلا ، من غزة إلى حموريّة، من دير ياسين إلى التريمسة تعثّرت أقدام برؤوس، وتعثّر موت بقتلة، من تاريخ الفؤوس إلى جغرافيا الشجر، من خناجر الأسئلة إلى بصائر الموت، ثمة مجزرة عطشى في القواميس، في لسان العرب باب الجيم فصل الراء :" اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر". يحفر الموت اسمه في بلادي بالخطّ الثلث، على جدران القرى الوادعة، يحفر الموت اسمه على الأرصفة، يحفر اسمه على كلّ بيت، كلّ باب، كلّ بلادي الآن ترقص مع الموت، أنشودة للسيل، وأملاً في الهواء . *** يا نار كوني برداً وسلاماً على بلادي