13 سبتمبر 2025

تسجيل

الارتباك.. انفصال النتائج عن الثورة

17 يوليو 2012

تطور وقائع يوم 25 يناير 2011 إلى ثورة شعبية كان يحمل علامة أساسية، أن الشعب الذي خرج منه عشرون مليون مواطن إلى شوارع مصر، يرفض نظام الحكم واستبداده وفساده ويرفض غيابه عن معادلة الحكم وغاياتها. والنظام بالقطع ليس مجرد رئيس وحزب حاكم، ولكنه يشمل مجموع مكونات النظام السياسي في الحكم أو المعارضة، خاصة وأن أحزاب المعارضة لم تكن تعبر عن القوى الاجتماعية فانفصلت عن الشعب وتفرغت لصراعاتها الداخلية، ومحاولات نيل حصة أيا كانت ضآلة حجمها من مجالس نيابية زائفة، أو وظائف وخدمات. كانت المعارضة شريكا فيما يسمح به النظام، وكانت تلعب وفق قواعده هو وليس خارجها، بل إن بعض التنظيمات التي ظهرت بعد الثورة كانت بالأساس تدار بواسطة جهاز أمن الدولة قبل أن تصبح أحزابا. رفض الشعب النظام بكافة مكوناته وتجاوز كل الأحزاب والتيارات، وتجاوز النخبة، ولم تكن هناك لدي هؤلاء رؤية تتوافق والاحتياج الشعبي، وغاب الوزن الجماهيري لهذه الكيانات والأفراد وغابت المصداقية. لم يخرج الشعب المصري ليزيح الاستبداد ويستبدله بمستبد آخر من جماعة الإخوان أو التيارات السلفية. لم تكن قضية الشعب المصري تحديد الهوية الوطنية، أو موقفه من الدين، فالشعب المصري يملك هوية صاغتها حضارته وصاغ بها الحضارة، وأدرك معنى الوطن وتجاوز القبيلة والعشيرة ووحد شمال مصر وجنوبها منذ آلاف السنين ليقيم الدولة. وعرف معنى الخالق الإله، وعرف عقيدة التوحيد قبل شعوب الأرض والجماعات الدينية المستحدثة. وحدد معنى الأمن ونطاقه، ووصل إلى إدراك أن بوابات الأمن هناك في شمال الشام وشرقا في بلاد فارس. وعرف العلوم والفلك والفنون، واستقر مجتمعة في الوادي وعرف الزراعة. ولد نبي الله موسى وتربى فوق أرض مصر، وجاءها يوسف النبي وحكمها واتخذ من أرض الفيوم مخزنا لغلال سبعة أعوام، وعرفت مصر التخطيط بين زمن الرخاء وزمن القحط، ومشيت مريم العذراء حتى أسيوط حاملة المسيح عيسي بن مريم، وتعلم أبو الأنبياء إبراهيم أولى خطوات المعرفة في معابدها، وتزوج هاجر المصرية أم النبي إسماعيل أبو العرب، وتزوج محمد خاتم الأنبياء من ماريا القبطية المصرية وأوصى خيرا بأقباط مصر. لم تكن مصر دولة كفر بالله يوماً، لتحتاج من يأتي إليها مدعيا أنه يعيدها إلى الدين، بل كانت مصر الدولة تستطيع أن تحكم مياه الري وتنظمها عبر آلاف السنين، وكانت الدولة القوية قادرة أن تكون بيئة متسامحة مع كل الأديان فوق أرضها، وعندما يأتي عارض يضعف الدولة، تطل الفتن برؤوسها وتسعي إلى اقتناص الدولة وليس إحياء الدين. كانت ثورة يناير الشعبية ضد نظام الحكم ولم تكن الثورة ضد الدولة. فالمصريون يدركون معنى الدولة، ويدركون أعمدتها الأساسية، وهي فدس الأقداس لديهم. يعلم المصريون قيمة الأزهر، ويدركون أن رجاله ليسوا كهنة المعبد، وعندما يقف إماما ليوم جمعة فوق منبر الأزهر مدافعا عن الأزهر والإسلام في مواجهة محاولات "أخونة" الأزهر ويصل به الأمر حد البكاء فوق المنبر، يدرك من يملك بصرا وبصيرة أن الخطر يحاول أن يحيق بهذا الجامع الجامعة. ويدرك المصريون قيمة القضاء، وله عندهم جلاله ووقاره، نعم لديهم ملاحظات، ولكن موقف القضاة عام 2005 كان علامة تحول في تاريخ الحركة الوطنية المصرية. ويدرك المصريون قيمة الجيش المصري وأنه كان دائما هدف الشعب، إقامة جيش مصري وطني قوي، وضرورة زيادة عدده وعتاده، وأنه حصن الأمان القومي. ويدرك المصريون أن أي مناورة علي أي من هذه الأعمدة الرئيسية للدولة ــ وأيا ما كان على هذه المؤسسات من ملاحظات ــ يرفضها المصريون في عمومهم وليس أولئك أصحاب الحناجر الصارخة بما لا تدرك أو أهواء الخلافة الإسلامية ووراثة السلطة والدين علي حساب الشعب وحاجاته المعيشية، أو تلك المحاولات لهدم صرح القضاء واستبداله بقضاء عرفي وبأدوات من داخل القضاء ذاته. كانت الثورة استرداد للإرادة الوطنية، ولم تكن بحثا عن هوية ضاعت أو عن دين فقدت الطريق إليه. رفعت الثورة بالإرادة الوطنية شعار "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية"، وكان شعارا جامعا يتجاوز شعار إسقاط النظام إلى تحديد غايات استراتيجية للثورة، ولا يتوقف عند محدودية شعار "ارحل" الذي حاول السيطرة علي إرادة التغيير. ولم يعطي الشعب تفويضا لجماعة دينية أو حزب أو نخبة لتعبر عنه، وقضية صناديق الانتخابات أمر آخر غير إرادة الثورة وبعيدة كل البعد عن الشرعية الثورية، بل هي إهدار للثورة، وتجاوز لمعنى الشرعية الثورية ومقتضياتها والهروب مما يترتب عليها من مسؤوليات، بمناورة الصناديق تحت عنوان الديمقراطية الشكلية دون مضمونها في التعبير الواقعي عن إرادة شعب ينشد التغيير. الديمقراطية كما جرت ممارستها هي سرقة للإرادة الوطنية وتجاوز لها وتآمر على الثورة لإجهاضها. الشرعية الثورية وهدم نظام الاستبداد والحفاظ على بنية الدولة هي قضايا يجب التعامل معها بكل جدية حتى لا تتحول إلى جدل عقيم يخرج عن أهواء تغامر بالوطن ولا تتحمل مسؤولية البناء. يرصد المتابع المنصف للثورة المصرية أن النتائج لا ترتبط علي أي نحو بالمقدمات، وأن الاتجاه الرئيسي للثورة كان يستهدف التغيير في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر، وجري تحويل الاتجاه لإعادة إنتاج النظام السابق بمكونات شاركته فترة حكمه، بل هي تدين بوجودها له أو لنظام السادات الذي سبقه، واهم ما يجب الانتباه إليه ذلك الحديث الغير دقيق بان الشعب أراد ما آلت إليه الأمور في مصر، فالفارق كبير بين إرادة الشعب في هدف الثورة الأعلى "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية" وبين رؤية المكونات السياسية للنظام الذي يجري إنتاجه والتي تغيب كلية عن هدف الثورة الأعلى، بل هي تتحرك في إطار النظام السابق وبآلية التيار الإسلامي. لقد جرى اختزال الوطن في جماعة الإخوان والتيار السلفي بناء على القدرة التنظيمية والعدد، دون اعتبار لماذا كانت الثورة وماهية أهدافها، حتى صار الخلط بين الجماعة والدولة خلطا لا يقبل به المواطن، وقد يؤدي هذا الخلط إلى انفجار مواجهات في المستقبل. إن عدم اتساق النتائج مع المقدمات هو السبب الرئيسي لحالة الارتباك القائمة الآن في مصر. الثورة حركة للأمام وهي عمل تقدمي، وهي بالأساس عمل اجتماعي، وليست مجرد حدث سياسي يصيب نظاما قائما، ليتم استبدال جماعة حكم بجماعة أخرى. الثورة تعيد تكوين العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، وبين قواه الاجتماعية الحية، وليس بين مكوناته السياسية خاصة أن كانت مناوئة للثورة أو رافضة لمنهجها. رفعت الثورة الشعبية المصرية شعار الاستقلال الوطني، ولم تكن تسعى لنظام حكم يسعى للرضا الأمريكي ليستمد منه قوته أو شرعية بقائه. نجح التحالف المضاد للثورة في إخراج الشعب من المعادلة، مما أدى للسقوط في بركة النظام السابق مع تغير في شكل الخطاب السياسي ليحمل سمة الدين قسرا مع ذات المضمون والتوجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولم تعبر السلطة القادمة بديمقراطية الصناديق عن قوى المجتمع، فأصبحت غريبة عن الثورة. إن ما يجري في ميدان التحرير فقد أي علاقة له بالثورة، وصار نوعا من التقليد الباهت لحركة الاحتشاد التي حققت إنجاز كسر حاجز الخوف وإقالة الرئيس السابق، وصار الوجود بالتحرير نوعا من النزق لا علاقة له بالثورة ولا بالدولة وخارج سياق اللعبة السياسية الجارية. إن الاتجاه إلى استنباط سلطة سياسية من واقع سياسي مقهور هو هروب للأمام، لقد جري ذلك بينما دماء شباب الثورة تنزف فوق الإسفلت والمتحدثون باسم الدين سياسيا بعيدين عن قولة الرسول الأكرم: "إن دم الإنسان عند الله أكثر حرمة من بيت الله". لقد تم استغلال حالة التصحر التي أصابت الحياة السياسية في مصر، ولم يبقي غير جماعة الإخوان والتيارات المتأسلمة، والتي كان سعيها قبل الثورة إلى مشاركة النظام السابق، بل أدانت الخروج علي الحاكم طالما أنه يسمح بالصلاة في المساجد، وكان أغلب التيار السلفي أداة بيد جهاز أمن الدولة، ويمكن القول بأن من آلت إليهم سلطة الحكم أو الجمعية التأسيسية للدستور هم من رفضوا ثورة يناير بل وهم من أسهموا بالنصيب الأكبر في إجهاضها. ويبقي السؤال الأزلي "ما العمل؟" يفرض نفسه لتجاوز مجرد رصد الحالة إلى أداء لصالح المستقبل. هل يمكن للقوى الاجتماعية أن تجد لنفسها آلية تدخل بها معادلة إدارة أزمة الثورة في مصر؟ ومن المؤهل لذلك؟ إن دخول القضاء كأداة للصراع، يعني غياب القدرة السياسية، وعجز الأطراف عن إقامة توازن يعبر عن الواقع. قد ينجح القضاء بأحكامه في أبطال قرار أو تأكيد قرار آخر، ولكنه لا يعيد صياغة ميزان القوي في المجتمع. إن القوى التي تتحدث عن الانتماء للثورة أمامها فرصة استعادة الوجود، وإعادة حركة الثورة لمسارها، ولكن لذلك شروطا واجبة التحقق، والتجارب السابقة تؤكد أن المسؤولية تحتاج إلى جسارة الأيام الأولى الثمانية عشر للثورة. إن الشرط الأول هو امتلاك القدرة على الخروج من دائرة الذات الأنانية لدى العناصر المتصدية لهذه المهمة، والتجربة تؤكد ضرورة أعمال قواعد الفرز والتجنيب وبصدق وتحمل تبعاته وأعبائه وعدم الانسياق العاطفي وراء الأسماء وهما بلا مبرر في الواقع مما تحتاجه الثورة، لقد أصبح واجبا أن تنتج الثورة كوادرها وتستدعيهم لتولي مهمة الخروج الثاني. إن الشرط الثاني هو ضرورة الاستفادة من متغير محتمل تضيفه أحكام القضاء بعد حل مجلس الشعب، إذا ما حكم القضاء بإبطال الجمعية التأسيسية للدستور وحل مجلس الشورى. إن الشرط الثالث هو امتلاك رؤية مرحلية لإدارة أزمة الثورة، ويكفي النضال الوطني أنه أضاع فكرة مجلس أمناء الدستور الذي اقترحه الأستاذ هيكل قبل الثورة، وإضاعة رؤية الدكتور محمد البرادعي في مجلس مدني وحكومة انتقالية لمدة عامين والتي أنهاها بانسحابه من انتخابات الرئاسة. إن مقترح البرادعي الأخير يستلزم الاستيعاب والعمل على الوصول إليه، ورؤيته تتمثل فيما يلي: "الحوار الوطني يجب أن يكون بين الرئيس والقوى المدنية والمجلس العسكري وبمشاركة السلطة القضائية للتوافق على إعلان دستوري مكمل جديد وأهم ملامحه: 1) لجنة تأسيسية متوازنة لإعداد دستور ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات. 2) نقل السلطة التشريعية إلى اللجنة التأسيسية. 3) الاتفاق على تشكيل مجلس الدفاع الوطني برئاسة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة. 4) تدخل القوات المسلحة لحماية الوطن أو مشاركتها في حفظ الأمن داخل البلاد يكون بقرار من مجلس الدفاع الوطني". وسواء أخذ بهذا الاقتراح أو ببعض منه، فالأساس فيه هو اللجنة التأسيسية لوضع الدستور المتوازنة وفتح باب الحوار الوطني، ويمكن البناء علي ذلك للخروج أولا من حالة الارتباك القائمة والتي يدفع الشعب ثمنها مزيدا من المعاناة بدون أفق منظور لنهايتها. والشرط الرابع هو الفصل بين دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة في المرحلة الانتقالية وبين مقولة إسقاط حكم العسكر. هناك بالقطع أخطاء وخطايا خلال الفترة من 12 فبراير حتى اليوم، وأقر بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة عندما أصدر تصريحه الشهير "إن رصيدنا لديكم يسمح"، هناك دم أريق على الإسفلت، وللدم حق لا يضيع، ولكن اللحظة توجب إعادة التوازن للثورة. الشرط الخامس أنه لن يكون هناك تعبير عن القوى صاحبة المصلحة في الثورة إلا من ذات هذه القوى، وهذه القوى وشباب الثورة مطالبون بامتلاك آلية تنظيمية تنقل الثورة من حالة التشرذم والتفكك إلى حالة تنظيمية تملك رؤية وقادرة علي الفعل، حتى يدخلوا في ميزان القوى بالمجتمع. إن مصر هي الجائزة الكبرى في الشرق الأوسط، هكذا يراها أعداؤها، ولا يجب التعامل مع مصر بقدرها بأنها تورتة ويجب اقتسامها، فالثورة لم تزل عجينة لم يتم إنضاجها، ووقعت العجينة في طين الصراعات والطموحات غير المشروعة، ووجب انتشالها وإعادتها إلى مسارها، بأنها ثورة شعب، وأن الثورة هي علم تغيير المجتمع.