10 سبتمبر 2025
تسجيلتبدو قصص الثورة ودروسها بلا نهاية، فكلما اقتربت من البشر أكثر، كلما اكتشفت أن الإعجاز ليس فيما تحقق سياسيا وحسب، ولكن في مشاهد إنسانية تتجاوز معارك مواجهة نظام الفساد الذي سرق الوطن والشعب ويتبين كل يوم أحجام الثروات المنهوبة بما يثير الفزع من فجور جماعة الفساد ونظام الحكم. كان حديثنا دائما أن الحركة الوطنية المصرية تعوزها الإمكانات المالية وأنها فقيرة، وفقدان القدرة المالية عائق ويحول أحيانا دون الاستمرار في الحركة، وهو أيضا شرخ يجري التسلل من خلاله إن نقص الوعي أو انحرفت الإرادة. هذا العوز دائما كان مدخلا للتعاون إن حدث اعتقال، أو حدث إضراب، أو حدثت أزمة، تتكون جماعات الإعاشة وتقبل التبرعات أيا كان مقدارها، ودائما كانت هذه الصناديق مؤشرا أمام أمن الدولة عمن يدعمون الحركة، وتتناولهم أنشطتها بالمضايقات وأحيانا الاعتقالات. عزة ابنة المهندس عادل آدم رحمه الله، صديق العمر ورفيق رحلة العمل الوطني، لم تعاصر زمن اعتقال والدها عام 1971 ولكن القصص وصلتها، واتصلت بي بداية الأحداث أنها ومعها العديد من الشباب يودون دعم الصامدين في مواقعهم بالطعام والغطاء والأدوية، وكانت المعلومات تؤكد أن المنازل والمحلات التي تحيط بالمعتصمين تتولى أمر رعايتهم، وأحطتها علما بما يجري وطلبت منها التوجه بالإمكانات إلى المستشفيات لأنهم هناك يحتاجون الدعم مع تزايد أعداد المصابين. وبعد نشر مقال الأسبوع الماضي، "الكتلة الشعبية الوازنة" وما تضمنه من مشهد مؤثر من ميدان التحرير، تلقيت من الأستاذة مروة عاشور ليسانس لغة إنجليزية وتعمل مترجمة، رسالة لا يمكن أمامها إلا أن نكبر هؤلاء المقاتلات المحتسبات من بناتنا، وتروي مروة الحكاية على النحو التالي: "من الحاجات اللي فاكراها وبستغرب لها ساعات بس هي "فدا عيون مصر" إني أنا وبنات معايا أيام الميدان كنا بنروح من بدري ونمشي آخر اليوم، لأن في البيت عندي غير مسموح بالمبيت خارج المنزل. كنا بننزل نساعد الشباب في تنظيم الميدان وشراء المستلزمات الطبية من الوحدات القريبة لأن إصابات 25 و28 والأربعاء الدامي كانت كتيييير وخطيرة أكتر مما صورها الإعلام، برك الدماء كانت تملأ المكان والشباب فقد عينه وأحيانا أطرافه ومع ذلك يبتسم ويلوح بعلامة النصر وأحيانا كنت لا أتمالك دموعي وهما اللي بيخففوا عني. في يوم وإحنا هناك حسينا أنه فيه مواد ناقصة من وحدة الطوارئ الطبية وكذلك الغطاء وكنا في عز البرد، وكان لازم الشباب ده يصمد ويكمل وقررنا إننا نساعد بكل ما لدينا، اقترحت فكرة إننا نبيع ما نملك في ذلك الوقت من "ذهب"، خاتم أو أي شيء وقلت لهم: ده اختياري طبعا بس أنا هعمل كده عشان الناس دي لازم تتأمن وتكمل بمنتهى الحماس..... ووافقوا فعلا وجمعنا ما كان معنا، كل شيء.... وكنت بسأل نفسي إيه الشعور اللي يخللي الناس تتنازل عن كل شيء حتى الحياة في حب التراب ده.... وذهبنا لمحل في وسط البلد وعرضنا عليه الموضوع وكنا عارفين إن البلد في حالة كساد ومفيش بيع ولا شراء عشان كده أنا عرضت على صاحب المحل باقتراح إحدى صديقاتي أن يبتاع الذهب ولو بربع الثمن.... وللمفاجأة صاحب المحل خصم جزء بسيط جدا لأنه بعد ما عرف إحنا عايزين الفلوس ليه قال لنا ولاد الميدان في رقبتنا كلنا وأنا مصري يا بنات زيكوا وشاركت في 73 (يعني حرب أكتوبر 1973) وكنا بنبوس الأرض مع كل نصر نحققه وقال لنا لو الفلوس قصرت ارجعولي من غير أي حاجة و.... وتأكدنا في اليوم ده أن الثورة دي مش يتيمة وأن مليون واحد هيدافع عنها معانا واشترينا المستلزمات والبطاطين والأكل ورجعنا للشباب الصامد ودمعت عيوننا كلنا.... تعرف حضرتك أنا لو عشت ميت سنة كمان عمري ما أحس أجمل من المشاعر اللي كانت في الميدان، لكن كان ناقصني حاجة مهمة، "الشهادة"، كان نفسي فيها قوي، وإن شاء الله ربنا يكتبها لي المرة الجاية في فلسطين". باعت بناتنا ذهبهن ليثبتن أن الثورة ليست يتيمة، وأنها تملك موارد شعبها التي لا تنضب، أرواح ودماء وذهب البنات. تبدو هذه المشاهد التي تمت في صمت وسكينة وأحاطها دم المصابين والشهداء وأرواحهم، فعل الملائكة الحارسة للوطن والذي يعج اليوم بالضجيج، مظاهرات لتنظيمات دينية لف الجهل العقول منها، وعلى كافة الأصعدة، وصار الصراخ باسم الدين لا يعبر عن الدين، ولكنه يعبر عن مجتمع فقد هويته ومقومات بنائه وبقائه، وتعددت صور الفتن التي يمكنها أن تودي بوحدة المجتمع وبالسلام بين أبناء الشعب الواحد. لا وجه للمقارنة بين بائعة الذهب ومن يطالب باقتحام دور العبادة، أو من يقتل برصاص من كنيسة أو منزل يجاورها، ويتظاهر مطالبا بتدخل أجنبي لحماية الأقليات. هؤلاء خارجون على هذا الشعب، والصمت عليهم هو مشاركة لهم في جريمة قتل الثورة والانحراف بها وإهدار نتائجها. والغريب أن كليهما، السلفيون والكنيسة، وقفا ضد تحرك الشعب في 25 يناير، ولكنهم عادوا بعدها كل يحارب الآخر غير معركة تحرير إرادة الوطن. بمجرد أن هدأت موجات الصدام مع النظام المخلوع، بدأت الفتن تطل برأسها لتفتيت جبهة الثورة ولحصارها المعنوي وزرع الفتنة بينها وبين الشعب جميعه. كانت أولى الموجات، ما يمكن أن نسميه "فتنة الأجيال"، حيث جرى الحديث عن أن الشباب صنع الثورة وأن الشيوخ عجزوا عنها، وكأنهم ولدوا من رحم أجهزة الكمبيوتر، ولم يتشكل وجدانهم وحاجاتهم في مجتمع الأهل، وكأنهم عندما خرجوا ليكسروا حاجز الخوف، تنكر المجتمع بكل أطيافه لهم، ولم يكن حاميا لحركة الاختراق، ومدعما لها بموجات التظاهر باتساع الوطن وبعمق تجاوز الثمانية عشر مليونا. الثورة كانت فعلا شعبيا جامعا، لم تترك جيلا دون الآخر، ولكن هذه الفتنة أنتجت موجة نفاق وتسلق من بعض من الأجيال التي سبقت، وهو الأمر الذي أدى إلى استخدام كلمة "الشباب" في محاولات متكررة للالتفاف على الثورة، ومع ذلك فإن حسم أمر هذه الفتنة لم يستقر بعد، ومازالت تنتج مواجهات داخلية بين قوى الثورة غير المبررة، بينما توقفت حركة الحشد. وواكب هذا الاتجاه فتنة "الاستقرار"، وأن استمرار التظاهر سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد، واستقطبت هذه الدعوة قطاعا داخل المجتمع، وصارت الثورة مطالبة بالدفاع عن حق التظاهر والحشد وسيلتها الوحيدة للضغط من أجل استكمال المسيرة، وكأنها هي سبب المشكلة وليست طريق الخلاص من الفساد والانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومنذ اليوم الأول للثورة، اختزل بعض المتعصبين حركة الشعب من أجل التغيير إلى نداء "الإفراج عن كاميليا"، وكاميليا هذه سيدة مسيحية قيل أنها أسلمت، وجرى حبسها في أحد الأديرة، وصارت كاميليا في عرف هؤلاء هي القدس وهي مصر. وخرجت موجات التعصب الديني تمارس جرائم النظام السابق عندما قام بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية لإشعال نار الفتنة وإطلاق يد الأمن. كانت نار "الفتنة الطائفية" تختفي تحت رماد مكتوم، والأطراف جميعها تمارس العناد لإعلان وجود الذات، وحصار الوطن رهينة التعصب الديني، الذي نجح في احتواء الجميع أيا كان وعيهم، ويعلن وزير العدل أن بعض ضباط أمن الدولة تنكر في زي الجيش لإشعال الفتنة بين الجيش والشعب وأسفر التحقيق أن هذه الأحداث كانت مرتبة، ولم يتجاوز موقف الحكومة مجرد الإعلان!! وتبرز "الفتنة الكبرى" التي صاغتها لجنة البشري، وتمثلت في الاتجاه إلى انتخابات تسبق الدستور، وكأن هناك من خطف مصر وسرق الثورة. وتتجسد سرقة الثورة وعائدها بحفل لتبادل الدروع في الإسكندرية بين وزير العدل في حكومة تسيير الأعمال وجمعية رجال الأعمال بالإسكندرية، ويدلي الوزير بتصريحات تتجاوز المهام الموكلة إليه ويستبق صياغة الدستور، وبصياغة تفتقد الكياسة والوعي بتاريخ مصر، قال: "الدستور الجديد سيتم وضعه في الفترة ما بين الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولكننا سنلغي فكرة أن يكون نسبة العمال والفلاحين من مجلس الشعب ?50، فلا يوجد دستور في العالم ينص على ذلك، ووجودهم بكل هذه النسبة كان تخلفا". إن قضية نسبة الخمسين في المائة للعمال والفلاحين في مجلس الأمة، جاءت كأحد إنجازات ثورة يوليو 1952، وتستند لنصوص دستورية لم يتم تعديلها حتى الآن كما لم تكن واحدة من النصوص التي عارضتها الحركة الشعبية المصرية طيلة الأربعين عاما الماضية، وهي عمر الجمهورية المصرية الثانية، أو من النصوص التي عرضت للاستفتاء الشعبي الأخير، ولعل التصريح الجاهل لهذا الوزير يطرح مهمة على كل المعنيين بهذه القضية للبدء بحوار شعبي حولها ضمن إستراتيجية العمل الوطني الجديدة مع تأسيس الجمهورية المصرية الثالثة وإقرار دستورها الدائم. لم تعد سرقة الثورة من تنظيمات أتاح لها المجلس العسكري الخروج من الظلام إلى النور، بل تشاركه حكومة لا علاقة لها بالشعب ولا ثورته ولا تاريخه. والادعاء بأنها جاءت من ميدان التحرير لا يعني بالضرورة وعيها بمكونات الشعب، ولا بحدود دورها الوظيفي كحكومة تسيير أعمال، لا يحق لها اتخاذ قرارات مصيرية كهذه بالنسبة للمجتمع. عندما تكون أخطاؤك في حدود ذاتك يصبح لك ما لك وعليك ما عليك، ولكن عندما تتجاوز أخطاؤك ذاتك إلى الوطن وأنبل ما أنتج الوطن في ثورة شعبه، تصبح المواجهة حماية للشعب والثورة والتاريخ. وسيبقى وطن بائعة الذهب حرا ينتظر الاتجاه إلى بناء الدولة بالدستور وليس بالترقيع.