28 أكتوبر 2025
تسجيلتظل اللغة العربية من بين لغات أهل الأرض التي تحمل إرث الماضي وعبقه، ومرونة الحاضر وأفقه، لغة حية ذاخرة مرنة، يكفيها شرفا أنها اللغة التي اختارها الله لكلامه: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" هذا القرآن العظيم لا يعرف فضله من لا يعرف كلام العرب وفي القلب من ذلك: أشعارهم التي مثلت ذاكرة العرب التاريخية، يقول ابن القيم رحمه الله: وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب.... ونظر في أشعارهم" ولا عجب إذن أن نجد كثيرا من المفسرين يعمد إلى الشعر الجاهلي ليبين معنى دفينا في آية أو كلمة، ومن عجيب ما يحكى في ذلك تلك المناظرة الشهيرة بين ابن عباس رضى الله عنهما، والخارجي نافع بن الازرق، فقد قالا له: إنا نريد أن نسألك عن أشياء في القرآن — يريدان إحراجه — وتأتينا بمصداقه من كلام العرب، وظلا يحاوران ابن عباس طويلا وهو ينتزع لهما من بطون الشعر ما أفحهما وردهما خائبين، ومن تلك المناظرة اقتبس جزءا يسيرا لضيق المقام:قال نافع: أخبرني عن قوله تعالى (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) قال ابن عباس: لا تضعفا عن أمري. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:إني وجدك ما ونيت ولم** أزل أبغي الفكاك له بكل سبيلقال: فأخبرني عن قوله تعالَى (وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) قال: الحاجة.قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، اما سمعت عنترة يقولإن الرجال لهم إليك وسيلة** وإن يأخذوك تكحلي وتخضبيقال فأخبرني عن قوله (شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) قال: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق. أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وهو يقول:لقد نطق المأمون بالصدق والهدى**وبين للإسلام ديناً ومنهجاًقال فأخبرني عن قوله تعالى (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال: نضجه وبلاغه. أما سمعت قول الشاعر:إذا ما مشت وسط النساء تأودت**كما اهتز غصن ناعم النبت يانعقال: فأخبرني عن قوله تعالى (وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا) قال ابن عباس: رحمة من عندنا، أما سمعت طرفة بن العبد يقول:أبا منذر أمنيت فاستبق بعضنا**حنانيك بعض الشر أهون من بعضقال: فأخبرني عن قوله تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) قال: لن يرجع بلغة الحبشة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:ولا المرء إلا كالشهاب وضوئه** يحور رماداً بعد إذ هو ساطع.