13 سبتمبر 2025

تسجيل

الحالة المصرية بين السيولة والتنظيم

16 ديسمبر 2011

القراءة السياسية لنتائج الانتخابات حتى الآن تشير إلى أن بقايا النظام السابق بألوانها المختلفة، تحاول تأكيد وجودها وإكساب هذا الوجود شرعية الصناديق. حركة خداع عميقة للالتفاف على الثورة ونتائجها بعد أن أثبتت المواجهات المباشرة مع التجمعات الشعبية "عجز القوة" في مواجهتها، فلم يعد أمام الحركة المضادة للثورة غير إلباس المواجهة مسوح الديمقراطية الصناديق الكاذبة، وإلباس الصناديق عباءة الدين. والإجابة على سؤال ما العمل؟ الذي يواجه عناصر الثورة في مصر الآن يستحيل الوصول إليه دون تحليل سياسي لمدلول النظام السياسي السابق وحالة المجتمع الراهنة. وأيضا دون القبول بأن التغيير الاجتماعي هو علاقة مع بشر وقوى اجتماعية يصبح الحديث عن التغيير حرث في الماء. يهدر الحلم والطاقة ويفتح الأفق لنظام أشد سوءا من سابقه. وبدون القناعة بأن هناك فارقا بين التنظيم للقوى صاحبة المصلحة في التغيير وبين تركها في حالة سيولة دون جامع هيكلي لها. فإن الحركة من أجل التغيير تصبح نداء بوادي الطرشان ومجرد إبراء للذمة دون تأثير في الواقع الذي تحياه. إن الشعوب لا تسترد إرادتها لتضعها في متاحف التاريخ. إن نداء التغيير في المجتمعات ليس ترفا. ولكنه ضرورة حياة فالشعوب لا تطالب بالتغيير لتحيل الوطن والمجتمع إلى مجرد حزب أو تيار سياسي. والتغيير يعني في مضمونه إلغاء واقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وإقامة واقع آخر يحقق للمجتمع غاياته ومقاصده العليا. وهي لا تعني على الإطلاق تمكين إحدى القوى السياسية والاجتماعية من فرض سيطرتها. ولكن توازن القوى داخل المجتمع يجب أن يعتمد أساسا على قدرة كافة مكوناته في التعبير عن نفسها تحت ذات الظروف وبفرص متكافئة وبحركة نمو طبيعي. ما الفارق بين مقولة ديكتاتورية البروليتاريا ووحدانية التنظيمات الدينية داخل المجتمع. كلاهما ديكتاتورية الأولى طبقية وكانت لها رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية والثانية تفجر المجتمع وقيمه وبناءه الحضاري لتنفرد بالسلطة وفق الحق الإلهي دينيا. وليس عجبا أن يمر أحدهم بطوابير الناخبين أمام مقار لجان الانتخاب ليقول لهم لا تنتخبوا هذه القائمة فهي قائمة المسيحيين لتنفجر في وجهه "زوجتي" - وهي خريجة الأزهر قسم لغة عبرية – في طابور الانتخاب قائلة "هل أهدرتم الثورة ودم الشهداء لتقسموا الشعب إلى مسلم ومسيحي"، ورمقها الرجل بعين غاضبة إلا أنه ذهب ولم يعد.. فهل اعتقد كل من كان بطابور الانتخاب أنها ليست مسلمة وأنها تتخفى في حجابها؟ المشهد الآن ينتقل من نظام فساد وقتل وتوريث بذات مكوناته إلى نظام ديكتاتورية دينية وإرهاب بالتكفير والمليونيات الملتحية. وكلا النظامين باركتهما المؤسسة العسكرية المصرية. بل هي أقامت النظام الجديد بخيارات لجنة البشري وعلى حد قول د. يحيى الجمل في لقاء مع أقربائه "إنهم ضحكوا علينا"، ونقل عن البشري أنه حركته عقدة قديمة أن يبقى العسكر في الحكم، فأهدر معنى الثورة واستراتيجيتها وتنازل عن قناعاته وما كتبه نتيجة عقده، هكذا تعاملوا مع الشعب والثورة، وهكذا فتحوا الباب على مصراعيه للقادمين من الظلام، وفرضوا على الشعب أن يعود للشارع ولكن بطريقة مغايرة ليسترد الثورة من سارقيها. أطلق العنان لعودة التنظيمات الدينية في مصر منذ عام 1971 واستخدمها السادات في مواجهة كافة القوى الوطنية. وبعد أن كان الشعار الوطني في مصر " يد تبني ويد تحمل السلاح " أصبح النداء والإلحاح في الطرقات تبرعوا لبناء مسجد. وكأن مدينة الألف مئذنة تحتاج إلى نتوءات لا تحمل وجها حضاريا كمساجد القاهرة ولكنها تفتح مراكز الخدمة والاستقطاب والتجمع والحشد تحت ستار الدين. ومنذ انقلاب مايو 1971 وكافة التنظيمات السياسية والنقابية وأصحاب الرأي ونخبة الرجال في زمن التحرير والعدل الاجتماعي محل مطاردة أمنية كانت تتم بانتقاء وتوحشت بعد انتفاضة يناير 1977. الغريب في الأمر أن تنظيم الإخوان عندما عاد بين السادات بعد 1973 وأعاد السادات بعض جنرالات الجيش الذين أقصوا من أماكنهم بعد 1967 وكان البعض منهم من ذات الاتجاهات والبعض الآخر أقصي لعدم جدواه بعد 1967 فإن هذا التنظيم انقلب على السادات أيضاً وعاشت فترة السادات ميلاد تنظيمات دينية متعددة ووفق نظريات تنظيمية مختلفة لينتهي الأمر باغتيال السادات في عام 1981 بعد أن انقلب على المجتمع كله ووضع كل تياراته واتجاهاته داخل المعتقل. واغتيل السادات من داخل المؤسسة العسكرية واغتيل أمام كافة القادة وإلى جواره وزير الدفاع. واتسعت المطاردة الأمنية زمن مبارك لتشمل التنظيمات الدينية التي أصبحت تهدد النظام الذي نجا من حادثة المنصة. وفي الوقت ذاته كانت الأحزاب والتنظيمات غير الدينية ما زالت تحت وطأة الحصار منذ 1977. ومع تصاعد سيطرة النظام فقدت سياسته عمق الاتصال بالجماهير واحتياجاتها وصار الإحسان بديلا للعدل الاجتماعي واتخذت سياسة السوق المفتوح بديلا لسياسة التخطيط والتنمية ليغيب دور الدولة عن مسؤولية التنمية ويبدأ التوجه إلى تصفية كافة النقابات المهنية بعد أن جرى حصار الفلاحين وإلغاء ما ترتب على قوانين الإصلاح الزراعي والقضاء على الجمعيات التعاونية والاتحاد التعاوني للفلاحين. وتزامنت سياسة الخصصة التي أفرغت الاقتصاد المصري من خط دفاعه الرئيس للإنتاج والتجارة والذي كان دعامة زمن الإعداد للتحرير بين عامي1967 و1973 تزامنت مع تجمد اتحاد العمال المصري الأمر الذي استدعى اللجوء إلى إنشاء النقابات خارج إطار الاتحاد واكتمل عقد الانهيار الاجتماعي والاقتصادي في مصر ولازم ذلك سياسيا ما أطلق عليه " التصحر السياسي " والذي نتج عن غياب رؤية وطنية تربط بين الشعب والدولة وجرى الانفصال وصار جهاز الأمن هو أداة الدولة وتحولت الدولة إلى أسرة حاكمة وطبقة مالكة ليكتمل الانقلاب على عائد حرب أكتوبر والتي ظل الشعب فيها تحت السلاح عقدا من الزمن وعلى مدار 40 عاما منذ بدأ السادات السير في هذا الطريق. هنا تكمن قيمة ما جرى منذ 25 يناير 2011 وهنا تكمن قيمة الشباب الذي نجح في أن يشكل وجدانه وعقيدته الوطنية وسط هذا الهجوم الضاري الداخلي وانهيار المحيط العربي بعيدا عن قيمة المجتمع الواحد. وتجلت قيمة الشعب الصابر عندما خرج منه عشرون مليونا ليرفضوا النظام وما وصلت إليه الحال ولكنهم جميعا عادوا إلى بيوتهم لأن الهدف لم يكن مكتملا في الرؤى المتعددة الأفراد والجماعات ولأن القيادة كانت غائبة ولأن الجماهير كانت في حالة سيولة وليس هناك هيكل يجمعها. قد تصلح المواجهات الفئوية لتحقيق بعض المكاسب الضيقة، وقد تصلح مظاهرات الشباب واعتصامه لتعديل هنا أو هناك، وقد يزيد دم الشهداء والشباب قابل بهذا، ولكن الأمر محل البحث هو ما الجدوى دون رؤية كاملة وقوى من خلف هذه الرؤية. المجلس النيابي القادم من المجهول لا يعبر عن الشعب، ولكنه يعبر عن صناديق ارتدت عباءة الدين. وفي ذات الوقت يجب الابتعاد عن الصدام غير المشروع بين الدين بسبب الأدعياء الذين يتخذون منه ستارا للسيطرة دون مضمون اجتماعي واقتصادي وسياسي يعبر عن العمق الحضاري لمصر، والدين والله هو محوره الرئيس عبر كافة العصور، وليس مطلوبا القبول بإرهاب التكفير والحلال والحرام لأنه يغلق باب السياسة ويفتح باب الدكتاتورية. إن الدور التائه في مصر والذي يبحث عن بطله هو ترجمة شعار الثورة وعدم الانحراف عنها إلى قضايا فرعية، ودراسة القوى المكونة للمجتمع، وقدرتها على الحفاظ على زخم الثورة. البطل ليس فردا ستنتجه لنا شاشات التلفزيون، والبرامج الحوارية أو المجتمع الافتراضي، ولكن البطل مؤسسة تنظيمية وجب الأخذ بها وسيلة لإعداد القوى الشعبية وتنظيمها وراء أهدافها، وتخرج من الواقع. إن أهمية الانتقال من حالة السيولة إلى حالة التنظيم لا تقل عنها أهمية الحفاظ على جذوة التظاهر والاعتصام حتى لا يستقر لنظام الفساد المعدل والذي تجمل ليتوحش بدكتاتورية دينية، تحميها المؤسسة العسكرية. بدون رؤية استراتيجية ليس هناك تنظيم. وبدون تنظيم ليس هناك حركة منتجة. وبدون التظاهر والاعتصام ستنطفئ الجذوة. وبدون تحديد القوى صاحبة المصلحة الحقيقية سيكون التنظيم خواء جديدا يضاف إلى ما ينتشر في ربوع مصر من تشكيلات دون مضمون. هذه هي المعادلة الصعبة التي تواجهها الثورة في مصر بعد أحد عشر شهرا، ولكنها حركة الحياة، والتغيير ليس ترفا ولكنه مسيرة صراع وهو من الأهمية والجدية بحيث يجب أن يتولاه القادرون علية، والسيولة الشعبية هي العدو الأول لحركة التغيير. إن تجربة العمل مع الشباب تؤكد أنهم يملكون القدرة عقلا، وجهدا، ويرفضون صور الخداع أيا كان مصدرها، ولكن رسوخ فكرة التنظيم لم تكتمل عناصرها في اليقين الجمعي لهم، والثورة قضت على أي من الحركات الفردية، وأصبح لا سبيل إلا جماعية العمل وآلية لاتخاذ القرار، وبناء مؤسسي للحشد والحركة.